إلي كنيسة السيدة العذراء والملاك ميخائيل تدفق الآلاف يحدوهم الأمل بكل الإيمان أن يشاهدوا الظهور النوراني للعذراء وتجليها وينالوا بركتها فهي شفيعة كل المتألمين والمرضي والباحثين عن معجزة شفاء بعد أن استفحل بهم المرض وعجز الأطباء عن علاجهم… بين الآلاف المحتشدة في الساحة الفضاء أمام الكنيسة بعد منتصف ليلة الأربعاء الأسبق -16ديسمبر- استدارت كل الأنظار المتعلقة بالسماء تراقب الظواهر الروحية التي تملأ المكان بين لحظة ولحظة وتنتظر في تطلع تجلي العذراء… استدارت نحو مصدر صوت يبدو للآذان كأنه صراخ أنا شايفه… أنا شايفه وأيقن الجميع أن العذراء تمجدت, وأن معجزة قد حدثت… وقد كان… سيدة فقدت البصر 6 سنوات كاملة وجاءت بكل إيمان وأمل, وفيما هي تسبح وتطلب شفاعة العذراء متحسرة إنها لا تبصر كما يبصرون… لقد تمجدت معها العذراء فصرخت أنا شايفه القصة كاملة روتها لـوطني… وندعوكم في السطور القادمة لتسمعوها معنا, وليتمجد دائما اسم القديسة العذراء والدة الإله مريم البتول.
كوكب منير شحاتة سيدة شابة -39عاما- نشأت في أسرة بسيطة بوراق الحضر… وكانت وراق الحضر في ذلك الوقت -سبعينيات القرن الماضي- أشبه إلي الريف منها إلي الحضر… أو بمعني أدق تنتقل بسكانها البسطاء من الريف إلي الحضر في عشوائية خلقت لهم من المشاكل أكثر ما قدمت لهم من راحة… وكانت كوكب هي كبري أخواتها الثلاث -سميرة وسامي وسامح- ولأنها الابنة البكر فكان نصيبها من الصعوبات الحياتية التي تعيشها الأسرة هو النصيب الأكبر.
وفي تحد واجهت أعداء الحياة -الجهل والفقر والمرض- حتي حصلت علي دبلوم التجارة, ووجدت في مصنع برزي للحلويات القريب من منزلها فرصة عمل, ووجدت الراحة في أحضان كنيسة العذراء الأثرية المجاورة لمنزلها… وقدمت لها الحياة أول فرحة يوم زواجها -منذ 21عاما- ولكن فرحتها لم تدم, فقسوة الحياة ظلت تلاحقها, واضطرت أن تترك عملها بعد عام واحد من زواجها وإنجابها لابنها ريمون الذي أنهي منذ عامين دراسته وحصل علي دبلوم الصنايع, ومازال بلا عمل, ومن بعده شقيقتاه ريهام -16عاما- الطالبة بالصف الأول الثانوي… ووسط هذه المصاعب المأساوية تسلل إليها السكر اللعين وتركته ينخر في جسدها وهي لا تدري, أو تدري ولا تملك أن توقف تسلله لأنها لا تملك العلاج… إلي أن سقطت فوق الأرض في غيبوبة سكرية… وحملتها سيارة الإسعاف من حواري وراق الحضر الضيقة إلي معهد السكر بالقصر العيني… كانت نسبة السكر وصلت إلي 500 وأنقذها الأطباء وكتبت لها حياة جديدة…
كان هذا منذ 16 عاما, ومن يومها وهي تعيش علي جرعات -50 صباحا و25مساء- من الأنسولين ماكس ستار وأقراص ستوفاج, وقائمة طويلة من أدوية السكر والضغط أيضا… وللأسف فكل هذه العلاجات لم تفلح في إيقاف مضاعفات السكر والضغط, فتساقطت أسنانها واحدة بعد الأخري… وكانت الطامة الكبري منذ 6 سنوات عندما فقدت بصرها… عن هذه الطامة تحدثت كوكب قالت:
* * ذات صباح يوم -تحاول أن تسقطه من ذاكرتها ولكنها أبدا لا تستطيع- وكعادتها بعد أن خرج الزوج بحثا وراء رزق الله, وذهب الأولاد إلي مدارسهم, اصطحبت جارتها نادية إلي السوق القريب من منزلهما… بعد خطوات والشمس تشعشع في عز الظهر فتضئ الطريق أمام كل عابر سبيل… بعد خطوات أحست بالظلام أمام عينيها وكأنها في عز الليل… توقفت لحظات تسأل جارتها ليه الدنيا ضلمة؟ استغربت الجارة من السؤال وبادرتها في استعجاب بتقولي إيه يا كوكب… الدنيا منورة والشمس طالعة أهيه… لم تناقش جارتها لأنها تدرك حقيقة ما تقوله وإن كانت لا تراه… تدرك أن الدنيا لابد أن تكون منورة فإذان الظهر يصل إلي أذنيها مدويا من الميكروفون الكبير الذي لا تبصره ولكنها تعرف أنه معلق فوق منارة الجامع الصغير الذي تمر عليه في طريقها إلي السوق… حاولت أن لا تصدق حقيقة الظلام الذي غطي عينيها فجأة… وسارت خطوات أخري ولكنها أحست مع هذه الخطوات أنها ستسقط علي الأرض… وقفت وسألت جارتها وهي تمسك بيدها: هو الشارع كله مطبات ليه, أنا مش عارفه أمشي, ياله نرجع البيت صمتت الجارة لأنها فهمت أن شيئا ما قد حدث لـكوكب واستجابت لطلبها, واستدارتا للخلف عائدتين إلي البيت تستند كوكب لأول مرة علي ذراع نادية… وفي البيت تأكد لها فعلا أنها لم تعد تبصر… وشاع الخبر وامتلأ البيت بالجيران والأقارب المجاورين, وعاد الزوج والأبناء… وكوكب جالسة علي الكنبة لا تبصر ما حولها, حتي الزوج والأبناء تراهم طشاش… عبارة وحيدة كانت علي لسانها نور ربنا غايب عني… أنا مش شايفه.
* * * *
* * بشكر تقبلت كوكب ما أصابها, ولكن في لحظات ضعف كثيرة كانت تعاتب ربنا ليه يارب كده, الضغط وقبلته, السكر ورضيت به, لكن أني ما شوفش ده صعب قوي… كانت كوكب معذورة فهي شابة -33سنة- عانت من المرض كثيرا عندما أصيبت بالضغط وهي طالبة بعد زعل.. كانت بنت 16 ربيعا لكن هموم الحياة لاحقتها في صباها… وأصيبت بالسكر وهي شابة -33سنة- بعد زعل أيضا فهموم الحياة ظلت تلاحققها بل زادت من قسوتها!!… وأفقدتها مضاعفات السكر أسنانها وكانت قمة المأساة أن أفقدتها بصرها, فإن كانت تركيبة الأسنان استطاعت أن تخفي ملامح الشيخوخة التي تسللت إلي وجهها مبكرا, فإن شيئا لن يستطيع أن يعوضها عن نور عينيها بعد أن فقدته… ولهذا لم يكن غريبا أن تعاتب كوكب ربنا, وهي لا تعرف إنه يدخرها لمعجزة يتمجد بها اسمه القدوس.
* * * *
* * استسلمت كوكب لإرادة الله, فما تدبره بصعوبة لعلاج الضغط والسكر يصعب معه أن تدبر أيضا ما تعالج به عينيها… خفف من وطأة المأساة بعض أقاربها والأحباء الذين اصطحبوها إلي طبيب عيون ظلت تتابع معه علاج عينيها طوال ست سنوات, ولكن لأن الطب لا يصنع معجزات فإنه لم يستطع أن يعيد لعينيها الإبصار.
* * كانت البداية كما قال لها الطبيب المعالج… نزيف في الشبكية… وكانت أولي الخطوات علي طريق العلاج عمل أشعة بالصبغة علي العينين… والمؤلم أن النتيجة جاءت لترسم حجم المأساة… فالعين الشمال لا تبصر تماما, والعين اليمين 60/6 وهو بصيص ضئيل في طريقه إلي الزوال, وعلي أمل المحافظة علي البقية من هذا البصيص قرر الطبيب عمل جلسات ليزر للعينين… ولكن حتي الليزر -خمس جلسات في العينين- لم تأت بأي تحسن… ولم يكن أمام الطبيب إلا أن يوقف جلسات الليزر ليعطي العينين مساحة من الراحة, وفي ذات الوقت قرر مجموعة من الأدوية… ولكن حتي هذه كانت تشكل لها مشكلة تضاعف من حجم المأساة… فأقراص الأسبوسيد مثلا التي تتعاطاها كعلاج للقلب -الذي تأثر من الارتفاع المستمر للضغط- كان عليها أن توقفها حتي لا تزداد حدة النزيف في العينين… واضطرت أن تضحي بعلاج القلب لتحافظ علي البصيص المتبقي في عينها اليمني, ولكنها لم تحقق هذا ولا ذاك, فتدهورت حالة القلب وساءت حالة العين!.
* * * *
* * مضت الأيام والسنوات وحتي بصيص النور في العين اليمني ضاع عندما أحست كوكب بما يشبه ذبابة سوداء تصنع غمامة تكاد لا تبصر معها بالعين اليمني أيضا… وعندما اشتكت إلي الطبيب طلب تصوير العين بالفوريسين -كان هذا في 16 يونيو الماضي- وللأسف جاءت النتيجة لتضع خاتمة صعبة للمأساة ,فحتي العين اليمني ظهرت بها كتاركتا -مياه بيضاء- ولم يكن أمام الطبيب إلا إجراء جراحة لإزالتها… ولكن اليأس كان قد تسلل إلي كوكب بعد أن أظلمت الدنيا أمامها, ولم تعد تبصر شيئا… وصارت في عداد المكفوفين.