بالكلمات نعبر عما يجول بخاطرنا..الكلمات ناقل جيد لمشاعرنا لكن ليست كل الكلمات…لذلك فضل العقلاء الصمت علي الكلام…لكن ليس أيضا كل الصمت حكمة ولا كل الصمود عقل…فعندما يصبح الصمت سجنا يعتقل أحلامنا ومستقبلنا عندما يتحول لصنم نعبده, علينا أن نثور ونحطم أصنام الصمت التي عبدناها تحت أي مسمي حتي وإن كان الحكمة…هذا ما فعله صاحب مشكلتنا اليوم, خرج عن صمته لكن متأخرا جدا…روي لي قائلا:نحن خمسة أشقاء…أربعة رجال وفتاة, جميعنا عانينا العمر كله صامتين…فاض الكيل ولم يعد للصمت مكان…وخرجت أنا عن صمتي الذي عشت فيه سنوات طويلة بحجة العيب …حررت آهاتي أطلقتها لأكتب إليك ربما أجد راحة وحلا لما نحياه أنا وأشقائي جراء تهور وأنانية وعدوانية والدي التي انهارت أمي تحت وطأتها فرقدت طريحة الفراش مدة طويلة…ولم تحتمل, فوافتها المنية منذ ثلاث سنوات…إنه في السبعين من عمره, كان يعمل طباخا في أحد الفنادق الكبري, متسلط عداوني في معاملته لنا جميعا. لم يترك أحدا فينا وشأنه بل تسبب لكل منا في مشكلة أو أزمة نفسية حتي شقيقتي التي تبلغ من العمر الآن 39 سنة لم تتزوج بعد بسبب استمراره غير المبرر في تشويه صورتها أمام الناس وشكواه الدائمة منها عن حق وغير حق…ومبالغته في القسوة حتي إنها تركت المنزل لمدة أربع سنوات وعملت بإحدي دور الإيواء التي أقامت فيها ثم انتقلت الآن لتعمل في إحدي دور المسنين بعدما أصبحت الحياة معه مستحيلة.
كل منا له مأساة كان سببها والدنا الذي انتزعت الرحمة من نفسه لتسكن مكانها البغضاء والغلظة التي كان ضحيتها الكبري أخي وهو شاب حاصل علي معهد فني صحي شعبه أسنان…عمل بأحد المستشفيات الحكومية بمحافظة الفيوم وكان ناجحا جدا لكن هل يتركه والدي لنجاحه؟! مستحيل…ظل خلفه يستنزف راتبه وكل دخل إضافي يحصل عليه…يمنحه نفقات المواصلات اليومية فقط…معاملة قاسية أقرب إلي الإذلال…ظل الوضع هكذا وأخي سجين الصمت عاجز عن الدفاع عن استقلاله حتي أصيب باكتئاب شديد, ثم ترك عمله وانزوي وحيدا في المنزل لايتكلم…لايأكل…يرفض أي شكل يعيده إلي الحياة…حتي إنه رفض استخراج بطاقة الرقم القومي لمجرد أن اسم الوالد يجب أن يذكر بها…وظل الوضع علي ماهو عليه منذ عشر سنوات فلا أخي نال الشفاء ولا أبي تغيرت أحواله بل ازداد الأمر سوءا بعدما تزوج أبي من امرأة صغيرة في السن وتردت الأوضاع…زادت حالة أخي سوءا واقترح الطبيب المعالج إبقاءه في مستشفي أمراض نفسية, لكن من أين لنا بالنفقات؟
أما أنا الذي أروي قصة أسرتنا التعسة…حاولت الانتحار مرارا بسبب قسوته تجاهي وعنفه غير المبرر…ونجوت من الانتحار لترتب لي الأقدار عذابا أكبر إذ أنني التحقت منذ سنوات بالتعليم الفني وكان كل أملي الالتحاق بكلية الهندسة…وقبل الامتحان النهائي بأسبوع شعرت بآلام غريبة, ترددت علي الأطباء وإذا بي أكتشف إصابتي بسرطان الدم..تلقيت العلاج الكيماوي لفترة طويلة…ثم نصح الأطباء بزراعة النخاع..استسلمت لأقداري قانعا أنه ما من قدر أسوأ مما عايشته في ظل هذا الرجل, وأجريت العملية علي نفقة التأمين الصحي ورغم خطورتها إلا أنها تمت بنجاح…إذ تبرع أخي الكبير صاحب حالة الاكتئاب حاليا بالنخاع وأكملت تعليمي وحصلت علي الدبلوم الفني قسم كهرو ميكاينكا سيارات بتقدير جيد جدا بينما عارض أبي في التحاقي بكلية الهندسة لأنه لن يتحمل مشقة الإنفاق علي دراستي…وحالتي الصحية لن تسمح لي بالعمل والدراسةفي آن واحد.
استسلمت للأمر الواقع وبدأت أعمل رساما بالقطعة لأغلفة الكتب, أعيش بالكاد لأنفق علي أخي الأصغر ليكمل حلمه في التعليم…إلا أن هذا الحلم يبدو مستحيلا لنا فتعثر أخي الأصغر تعثرا شديدا بسبب ضيق ذات اليد وترك دراسته أيضا…ثم التحق بالجيش وقضي ثلاث سنوات ليخرج منه باحثا عن عمل فلا يجد…ويجلس إلي جوارنا أنا والأخ المكتئب ونبحث جميعنا عن مصدر رزق…وهباء يضيع بحثنا ولا نجد…فالمال كان دائما العقبة الضخمة التي لا نستطيع تخطيها لنحقق أحلامنا البسيطة كغيرنا من الشباب…بعد سنوات تجدد الأمل لي في استكمال تعليمي إذ حصلت علي منحة من مؤسسة أمريكية وأجريت المقابلة ونجحت فيها ومع بداية الدراسة انتابنتي آلام غريبة وإرهاق حاد…وبعد زيارة لطبيب وتحاليل طويلة أجريتها بناء علي طلبه اكتشفت أنني مصاب بفيروس سي…ولأنني أنهيت دراستي فلم يعد لي تأمين صحي…ولكن تمكنت من العلاج علي نفقة الدولة لفترة…ثم تدهورت الحال مرة أخري…فلا عمل لأي منا ووالدنا لا يدري بما فينا من آلام…كل ما يدريه كم من المال نكلفه وكم يمكن أن يوفره إذا مازالت أحمالنا عنه…وها نحن المعوزين ولا مورد لنا, ثلاثة رجال مرضي عاطلون وامرأة تنفق علي نفسها في دار مسنين والأخ الأكبر سافر إلي بلد عربي وفشل هناك ولا يمكنه العودة. تلك هي قصتنا مع القسوة والصمت ياسيدتي وكللها المرض والفقر, فهل من حل لديك؟
رد المحررة…
خرجت عن صمتك متأخرا جدا يا عزيزي…فكان لابد لكم جميعا كسر هذا الصمت وهذا الخنوع قبل سنوات مضت…كان عليكم تحدي القهر والقسوة بمجرد دخول أخيكم في حالة اكتئاب مزمن أدت به إلي ترك عمله…لكن يبدو أن إرادتكم جميعا تعلقت في أطراف العيب…من العيب أن نقف أمام أبينا, من العيب أن نتحداه, من العيب أن نقول في وجهه كلمة لا…ولم تدركوا أنه من العيب أيضا أن تتركوه يعيث فسادا في حياتكم ويقسو عليكم فتشكل القسوة مستقبلا قاتما لجميعكم…كان من الممكن إصلاح حال والدكم لولا صمتكم…لذلك فلا تتصور أنكم ضحايا حتي المنتهي لا…بل أنتم شركاء في جريمته ضدكم شركاء بالصمت…شركاء بالخنوع…من قال إن مراجعة الآباء تحط من شأنكم؟ من قال إن مناقشتهم ومحاولة الوصول لنقطة تلاقي في المعاملة معهم تندرج في خانة العيب والجحود وما إلي ذلك من مسميات؟
دع الماضي لما مضي…فالأيام تلملم نفسها وترحل وفي كل غد تشرق شمس جديدة تحمل آمالا جديدة…ومازال الحلم ممكنا…ومازال تحقيقه ليس مستحيلا…عليك فقط أن تترك نفسك للأمل وتخلع رداء اليأس عنك…واعلم أن القسوة التي تعرضتم لها من أبيكم قد تنشئ مرارة في النفس ولكن يمحوها الغفران والتماس الأعذار…والغفران لن يتأتي إلا بمحاولة الخروج من تلك الحياة…الخروج من أجواء الحزن والمرض والإحباط المتكرر…فالإنسان يغرق في الحزن أحيانا وينسي أن هناك أشياء كثيرة في الحياة يمكن أن تسعده…ابحثوا عن السعادة بعيدا عن أبيكم-شريطة أن تسامحوه-ففي المغفرة راحة.
ولا تعني المغفرة استمرارك في انتظار العطف منه…عليك أن تلقي خلفك كل ما فعله وتبدأ من جديد…هل سمعت هذه المقولة؟ لا تسافر إلي الصحراء بحثا عن الأشجار الجميلة فلن تجد في الصحراء غير الوحشة…فلا تستجد من أبيك الآن تغيرا أو عطفا…فحتي إن تغيرت أحواله بسبب كبر سنه وشيخوخته فلن تلتئم جراحكم بسهولة…ابحثوا عن الحياة الجميلة خارج دائرته…ابحثوا وسوف نبحث معكم حتي يمكننا رسم الابتسامة فوق شفاهكم جميعا قدر ما نستطيع وقراؤنا معنا لنرسم البسمات فوق شفاه كل المعوزين.
ــــ
إيد الحب
امتدت أيادي الحب بالمبالغ التالية:
10000 جنيه بأستراليا
170 يورو د.س.ع من لندن
4000 جنيه د.س.أ من لندن
138 دولارا أمريكيا أ.أ.ن
260 جنيها إسترلينيا د.ماري حنا من لندن
500 جنيه فاعل خير
1000 جنيه حد محتاج صلاة
1000 جنيه فاعل خير بالجيزة
1000 جنيه فاعلة خير بالإسكندرية
250 جنيها فاعل خير ببورسعيد
500 جنيه فاعل خير بالإسكندرية
800 جنيه فاعل خير
1000 جنيه من أبناء الأنبا كاراس