عاش منفيا غريبا 19 عاما… ولم يبتعد عن قلب مصر حتي اليوم
تحويل منزله في سيلان إلي متحف
حين بلغه نبأ نفيه إلي مدينة سرنديب كما يسميها العرب (سيلان) كست الفرحة وجهه وزال الغم عنه منذ أن وقع في قبضة الإنجليز والقصر, وكان حبيسا في زنزانة ينتظر حكم الموت… وقال عرابي لبرودلي وبيمان اللذين ذهبا لإخباره بخبر نفيه إني أخرج من مصر بستان الدنيا لأذهب إلي سرنديب جنة آدم… وأخذ يتحدث عما يذكره التاريخ القديم من قصة هبوط آدم وكيف أنه حل بهذه الجزيرة فصارت تعرف بجنة آدم.
كان الخديوي توفيق -ألد أعداء عرابي- أمر في 14 ديسمبر 1882 بمصادرة أملاك الزعماء السبعة وأموالهم وحرمانهم من أي أملاك في الديار المصرية, مع ترتيب معاش سنوي لكل منهم بقدر الضروري لمعيشتهم, ولم تكف الحكومة عن هذا الطغيان فنشرت الوقائع المصرية في 24 ديسمبر أمرا خديويا آخر بتجريد الزعماء السبعة من جميع الرتب والألقاب وعلامات الشرف التي كانوا حائزين عليها ومحو أسمائهم من سجلات ضباط الجيش المصري محوا مؤبدا.
أخرج عرابي من مصر مغلوبا علي أمره وأسدل الستار علي حركة أول فلاح أتي من أعماق الريف وهتف بحرية مصر وهو الزعيم القومي الأول في مصر, واحتضنته سرنديب ليبدأ فيها قصة التسعة عشر عاما.
نقل من القاهرة إلي ميناء السويس علي الباخرة الإنجليزية ماريوتيس هو وزملاؤه إلي سيلان وكان برفقتهم المترجم سامي عطا الله وبحراستهم عشرون من الجنود المصريين يرأسهم موريس بك استغرقت رحلة الوصول 14 يوما من بداية مغادرتها في 27 ديسمبر 1882, عكف عرابي خلال تلك الأيام القلائل علي تعلم الإنجليزية من كتاب كان يحتفظ به في جيبه, ونصح زملاءه بضرورة تعلمها.
وصلت الباخرة ميناء كولومبو في 11 يناير 1883, وقد توافدت الناس من كل أنحاء الجزيرة لرؤية البطل عرابي الذي يسمونه (أحمد عرابي المصري) واكتظ الميناء بالمئات من الرجال والنساء والأطفال حتي أصبح نزول عرابي وزملائه من الباخرة أمرا صعبا, ممات اضطر رجال البوليس إلي مطالبة الجماهير بالابتعاد عن الميناء, هذا ما أوردته صحيفة الأوبزيرفر السيلانية بتاريخ 19 يناير 1883. وجاء في كتاب حول العالم في 200 يوم للكاتب أنيس منصور أنه عندما نزل عرابي من الباخرة وكانت حوالي الواحدة بعد ظهر اليوم التالي لوصول الباخرة, علت الهتافات من الناس ترحيبا به, وأخذ البعض يقترب منعه لتقبيل يديه وقدميه, ومشت الألوف وراءه حتي وصوله إلي مسكنه المعد له من قبل السلطات البريطانية في مدينة كولومبو عاصمة سيلان, وقد خصص للزعماء السبعة بيت كبير يسمي (ليك هاوس) مساحة بستانه 14 فدانا معظم أشجاره من الموز وجوز الهند. ومكث فيه نحو عشرة أعوام ثم انتقل إلي كاندي.
وقبل أن نترك تلك الفترة التي عاشها عرابي في كولومبو, لابد أن نتعرف علي أهم ما قدمه من مشروعات هناك… فهو أول من دعا إلي تعلم الإنجليزية, وكان يردد الحديث القائل: من تعلم لغة قوم أمن شرهم ومكرهم, ونتيجة لدعوته لتعلم الإنجليزية انشق الكثير من المسلمين عليه, لكنه استطاع إقناعهم برؤيته, ودعاهم إلي إنشاء مدرسة للمسلمين يتعلمون فيها أصول الدين, ونجح في جمع 25 ألف روبية لبنائها, وفي يوليو 1892 وضح عرابي حجر أساس مدرسة الزاهرة التي أصبحت تسمي بعد ذلك الزاهرة كوليدج وأصبح الرئيس الفخري للمدرسة, وحرص علي زيارتها بين الحين والآخر رغم بعد المسافة من مسكنه الجديد بكاندي والعاصمة كولومبو والتي تزيد علي المائة كيلو متر من الطرق الجبلية الصعبة.
كما كانت حياة الزعماء بالجزيرة رتيبة لا تغير فيها, ولكنهم لم يشعروا بالملل وذلك لما كان بينهم وبين سكان الجزيرة من صلات الود. وفي سنة 1888 احتسب عرابي ابنا له في الثالثة من عمره كان يسمي صالحا توفي بالدفتريا, وحزن أبوه عليه حزنا شديدا.
ولم يقع مكدر بعد ذلك حتي كانت سنة 1891 فقضي عبد العال باشا حلمي نخبه في شهر مارس, وكان لموته منفيا حزن عميق في نفوس أصحابه, ورأوا في مصيره شبح مصيرهم فعظم ذلك عليهم.
أما عن حياته في مدينة كاندي فقد عاش قرابة عشر سنوات في بيت بشارع هالولا إيجاره الشهري مائة روبية -وتحول هذا البيت إلي متحف في عهد الرئيس عبد الناصر وافتتح في 1983م- كما وردت تفاصيل تلك الفترة في كتاب أحمد عرابي الزعيم المفتري عليه للكاتب محمود الخفيف… وصارت لعرابي مكانة عظيمة بين سكان هذه المدينة حيث سارع المسلمون باستيراد الطرابيش من الخارج ولبسها أسوة به وبأصحابه, وبلغ من حبهم لعرابي وإجلالهم له أنهم كانوا يطلقون عدة طلقات من مدفع صغير بجوار المسجد الذي كان يؤدي فيه صلاة الجمعة كل أسبوع, وطار صيت عرابي في الجزر المجاورة مثل ملاديف ولاكاديف وفي الهند وبورما والملايو, وأرسل إليه سلاطين هذه الجهات وبعض مهراجات الهند كثيرا من الهدايا وظلوا علي مودته حتي عاد إلي مصر, وكان سلطان جاوة يستشيره في كل أموره ويعد رأيه دستورا لا يمكن نقضه.
ويقال إن عرابي تزوج العديد من بنات سيلان, وغير معروف عددهن, وأن المسلمات في سيلان كن يرين في زواج شخصية مثل عرابي من إحداهن شرفا لكل أسرتها.
وفي كاندي توفي محمد فهمي عام 1894, وبعد لك توفي يعقوب سامي عام 1900 ودفن بجوار محمد فهمي. وبدأت بعد ذلك السنوات المريرة في حياة عرابي. وفي سنة 1900 أفرج الخديوي عن طلبة باشا, فعاد إلي مصر ومات بعد خمسة أشهر, ومحمود سامي البارودي فقد بصره نهائيا وعاد إلي مصر وتوفي في ديسمبر سنة 1904… وبقي علي فهمي وعرابي معا وحدهما.
وحدث في سنة 1901 أن زار الجزيرة ولي عهد إنجلترا وهو الملك جورج الخامس فيما بعد والتقي بعرابي وترفق به وأظهر له البشاشة, وكانت هذه الزيارة سببا في عودة عرابي, وهنا وصف عرابي عودته قائلا فعرضت علي سموه أني أعتبر تشريفه للجزيرة فكاكا لنا من الأسر, فتكرم علينا بأنه سيسعي لدي الخديوي في تحقيق أمنيتنا, ثم جرت المخابرة بين سموه وبين الحكومة الإنجليزية والحكومة المصرية في هذا الشأن., حتي أصدر عباس حلمي الثاني قرار العفو عنهما سنة 1901, وعاد الغريب إلي عشه… إلي وطنه بعد أن قضي قرابة تسعة عشر عاما حافلة بالعطاء لأهل سيلان… ولكن مصر والتاريخ لم ينسيا الفلاح الفصيح عرابي.
وللأسف نشر شوقي قصيدة, وكان عرف عنه في تلك المرحلة ولاؤه للقصر… قال في مطلعها:
صغار في الذهاب وفي الإياب
أهذا كل شأنك يا عرابي؟