ليس جديدا علي صناع السياسة الخارجية الأمريكية تجاهل قضايا وتطورات ومناطق من المهم جدا مراقبتها ومرافقتها, ثم يستيقظون فجأة _ ويستيقظ معهم الإعلام الأمريكي الغارق في السبات – إلي صياغة عاجلة لسياسة خارجية تنطلق من الجهل لتصب إما في إجراءات متهورة أو في معالجة سطحية للأزمات المتفجرة. اليمن قد يكون أحدث محطة تحد تستلزم الغوص في حياكة سياسة واستراتيجية حكيمة ثنائية وإقليمية ودولية, لصنع الاستقرار في هذا البلد الذي ينزف ويستنزف داخليا وفي جيرته المباشرة وببعد عالمي. الولايات المتحدة ليست وحدها المطالبة بإجراءات وسياسات واعية وإنما أيضا روسيا والصين والاتحاد الأوربي. لكن العبء عربي بقدر ما هو دولي إذ أن ما يحدث في اليمن من شبه تحالف ضمني بين الحوثيين والقاعدة يستهدف بالتأكيد المنطقة العربية الخليجية عبر البوابة السعودية. دول مجلس التعاون الخليجي ميزت أثناء قمتها الأخيرة في الكويت بين تضامنها التام مع المملكة العربية السعودية في حقها في الدفاع عن أرضها وسيادتها وبين ضرورة إجراء حوار داخلي يمني يتطرق إلي الناحية المحلية من الأزمة اليمنية. ما تحتاجه هذه الدول الآن هو البحث المكثف في الإجراءات الضرورية للدفع إلي الأمام بالناحية المحلية داخل اليمن, إن كان من أجل الحوار النوعي الجديد بين السلطة والتجمعات القبلية الكبري التي لها مآخذ علي السلطة, أو بهدف ضخ المعونات المالية والتنموية والوظيفية لمنع سقوط اليمنيين في فخ الالتحاق بالتطرف الحوثي أو بعنف القاعدة, ومن الناحية الدولية يجب علي دول مجلس التعاون الخليجي أن تصوغ أفكارا وسيناريوهات واستراتيجيات لتطرحها أمام مؤتمر لندن أواخر الشهر الجاري كي تكون شريكا منورا في الإجراءات الدولية نحو اليمن وكي لا تلهث وراء إجراءات غربية مهما كانت صائبة أو خاطئة في اليمن. فهذه ليست حرب العراق مكررة لأن لا أحد يتشوق لأن تخوض قواته حربا داخل تضاريس وجبال اليمن. إنها الشراكة الدولية كتلك التي صيغت وتصاغ لأفغانستان بعدما استفاقت السياسة الأمريكية والأوربية والروسية والعربية علي إمكان تحول اليمن إلي صومال معطوف علي أفغانستان, أي إلي يمن مهدد بأن يصبح دولة فاشلة ممزقة بخلافات قبلية ومصالحية وسلطوية تستخدمها القاعدة ساحة ومقرا لها لتطلق منها عمليات إرهابية إلي العالم, ولزعزعة دول أساسية في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية, وللتسلط علي الممرات النفطية الرئيسية والحيوية عبر الإرهاب التجددي والقرصنة الإرهابية. لكل هذه الأسباب, يجب علي أقطاب الشراكة في اليمن أن يتدارسوا في خطط للاستقرار تتجنب حقا مطبات تفاقم اللااستقرار بسبب قصر نظر أو سوء فهم أو عناد أو جهل فاقع. إن استقرار اليمن المنشود مشوار طويل يتضمن بالتأكيد استهداف القاعدة إنما يشمل بالضرورة التحدث مع الشريك الرئيس علي عبدالله صالح بلغة مختلفة من أجل مقاربة مختلفة داخل اليمن ومع اليمن, ويشمل بالتأكيد المعالجة الجدية للأزمة الاقتصادية بإجراءات فورية وبعيدة المدي. الاستقرار في هذا البلد يتطلب شمولية الاستراتيجية التي يجب علي مؤتمر لندن تبنيها بمشاركة خليجية فاعلة, وإلا فإن اليمن ربما في طريقه إلي التقسيم والتشرذم ليصبح بين أخطر الدول المصدرة للاستقرار وللإرهاب في العالم.
بعض الخبراء في الشأن اليمني يري أنه يجب وضع سياسة أمريكية تقود عملية التمييز بين أجهزة داخل اليمن متورطة مع القاعدة وبين أجهزة داخل اليمن يمكن الاستفادة منها من أجل تطويق القاعدة. يري أن من الضروري تبني استراتيجية لفصل الحوثيين عن قبائلهم خصوصا التجمعات القبلية مثل بكيل و حاشد. ما يطرحه هؤلاء الخبراء يشابه الي حد ما الطروحات التي دعت الرئيس الأمريكي باراك أوباما الي العمل علي أساس مبدأ وجود طالبان صالح و طالبان سيئ في أفغانستان وباكستان من أجل استقطاب الصالح لاستبعاد واحتواء السيئ. فهم يدعون إلي الإصغاء إلي إشارات ومؤشرات من التجمعات القبلية بأنها جاهزة لفصل التطرف الحوثي عنها كما هي جاهزة لقطع الطريق علي استفادة القاعدة من البيئة اليمنية المميزة.
كثيرون يرون أن لا مجال علي الإطلاق لانتصار عسكري في اليمن في هذا المنعطف وأن الواقع علي الأرض يتطلب الاستفادة من التركيبة القبلية المعقدة والقديمة, ويتطلب التمييز بين الأرض الخصبة لأمثال القاعدة وبين التورط الإيراني في منطقة صعدة, ويتطلب التدقيق في آفاق المعارك علي السلطة.
هذا الرأي يتداخل مع آراء عدة مسئولين في الدول الخليجية ويري أنه يجب علي حكومة علي عبدالله صالح أن تدخل في حوار مختلف مع قادة التجمعات القبلية الكبري, مثل بكيل وحاشد, للخوض في مفاوضات تعالج الظلم الذي تتذمر منه هذه القبائل والذي يستمد منه الحوثيون قوتهم. مفاوضات تحترم حقوق الطائفية اليزيدية بإجراءات عملية وباحترام هذه الحقوق وتقر بأن بكيل وحاشد لن تتعاونا مع السلطة في صنعاء, ما دامت السلطة تحجب عنهما الشراكة في السلطة والثروة. مفاوضات ذكية تأخذ في حسابها الانقسام داخل حاشد وهي ثاني أكبر تجمع قبلي في اليمن بعد بكيل, وذلك بهدف توظيف الانقسام في عملية نوعية لحشد حلفاء النظام في صنعاء بعد أن يتخذ قرارا جديا بأن مصلحة البلاد فوق مصلحة أفراد العائلة وبأن محاربة القاعدة أو الحوثيين تتطلب بالتأكيد شراكة جديدة.
أيضا, علي الدول المجاورة لليمن أن تكف عن دفن الرؤوس في الرمال وأن تقر بأن ما يحدث في اليمن ليس حربا مذهبية حصرا مهما حدث من استغلال خارجي للحوثيين وللقاعدة, وأن تتعامل مع اليمن علي هذا الأساس. فإجهاض قدرة القاعدة علي استدراج الشباب اليمني المحروم إليها يتطلب إجراءات فعلية في مسألة العمالة اليمنية في الدول الخليجية ويتطلب أيضا ضخ الأموال في البيئة التحتية بعيدا من الاستقطاب الطائفي. وإضعاف التطرف الحوثي يتطلب الكف عن إنماء وتشجيع التطرف السلفي. وإحداث شرخ في ذلك التحالف الضمني بين التطرف الحوثي وبين القاعدة أمر ضروري لكنه يتطلب بالتأكيد موافقة ومشاركة البيئة القبلية وقاعدتها الشعبية. وهذا يتطلب سياسة ذكية قوامها الاستثمار في الناس.
ما أسماه محلل سياسي يمني بـالترهل الأمني العائد إلي حرب الحكومة مع الحوثيين في الشمال, والتوتر في الجنوب الذي يريد الانفصال, هو ما ساهم في إيجاد بيئة تجنيدية لشبكة القاعدة. كذلك ما بدا لـالقاعدة بأنه بيئة قبلية وجغرافية في اليمن تسمح باستنساخ تجربتها في مناطق القبائل الباكستانية وفي أفغانستان. كلمة الاستنساخ يتداولها الآن المحللون كل كما يراها مطبقة إما من ناحية الجماعات المتطرفة, أو من ناحية الحكومات المعنية, أو من قبل الولايات المتحدة وشركائها في الحرب علي التطرف العنيف في أفغانستان وباكستان.
واضح أن المؤسسة العسكرية الأمريكية والسلطة المدنية في الإدارة الأمريكية تحركت بسرعة في اليمن الشهر الماضي بعدما اتهم الرئيس باراك أوباما القاعدة رسميا بأنها المسؤولة عن محاولة تفجير طائرة أميركية في رحلتها من أمستردام الي ديترويت وبعدما تبين أن للنيجيري الذي قام بالعملية علاقة بـالقاعدة في اليمن.
ما تفيد به المؤشرات هو أن المؤسسة العسكرية الأمريكية قد تري أن الشراكة الدولية في تقويض القاعدة في اليمن ستساعد جدا في استراتيجية إجهاض قدرات القاعدة وحلفائها في باكستان وأفغانستان وكذلك في الصومال, أي ان تطورات وأحداث اليمن قد تكون فرصة لتطويق نوعي لـالقاعدة ولإجهاض خططها نحو اليمن وبما يتعدي اليمن.
فطموحات القاعدة تشمل استنساخ تجربة أفغانستان في اليمن لتمويله قاعدة بديلة لها تنطلق منها باستراتيجياتها التدميرية شرقا وغربا شمالا وجنوبا. طموحاتها تشمل بالتأكيد زعزعة الاستقرار في المملكة العربية السعودية _ الأمر الذي عجزت عن تحقيقه سابقا _ لتكون بوابة اللاستقرار في الخليج والشرق الأوسط. وأما التكتيك لتحقيق الغاية فإنه يقتضي ذلك التحالف الضمني بين القاعدة والحوثيين ويقتضي الاستفادة من الوهن الأمني ومن آثار التجاهل الإقليمي والدولي لليمن.
عسكريا, سيحاول أقطاب القاعدة إرباك المؤسسة العسكرية الأمريكية وكذلك الأجهزة الأمنية المحلية, وستضطر الولايات المتحدة إلي التدقيق والنظر في جدوي تطبيق نموذج الاستراتيجية العسكرية لأفغانستان علي الاستراتيجية العسكرية لليمن مهما تشابهت البيئتان الجغرافية والقبلية. فاليمن ليس أفغانستان, ومن الضروري للاستراتيجية الأمريكية التنبه للأمر.
ما قد يساعد الاستراتيجية العسكرية الأمريكية والبريطانية في اليمن هو استنساخ الشراكة الدولية في تطويق العنف المتطرف في أفغانستان بمساهمة ومشاركة مباشرة وملموسة من روسيا والصين والدول المجاورة.
فجميع الدول الكبري تخشي من تمكن تطرف القاعدة وسواه من السيطرة أو التخريب في منطقة مصالح حيوية علي مضيق باب المندب الاستراتيجي وحيث مصادر النفط وطرق مرورها. لذلك جاءت مواقف الصين مشجعة لإنشاء قاعدة بحرية في المنطقة لحماية الملاحة. لذلك قد تكون الدول الكبري تفكر في احتمال الحاجة إلي قاعدة عسكرية داخل اليمن من أجل ضرب القاعدة. الذين يعدون لمؤتمر لندن المزمع عقده في 28 الشهر الجاري, والذين يتشاورون في أفكار تؤدي إلي منع تقسيم أو تشطير أو شرذمة اليمن أو تفكيكه لابد أنهم يدركون أن محاربة القاعدة ووقف اعتداءات الحوثيين داخل اليمن وعلي حدودها مع السعودية أمر بالغ الضرورة, لكنه ليس كافيا.
هناك كلام عن اتجاه الحكومة اليمنية ربما إلي تهدئة التوتر في الجنوب والتوجه نحو وقف الحرب في صعدة وعقد حوار مع أحزاب المعارضة بهدف إعادة الإمساك بالأمور قبل فوات الأوان عليها وعلي اليمن. الضغط الأمريكي والأوروبي والعربي ضروري في هذا الاتجاه بقدر أهمية العمل المشترك ضد القاعدة أو الحوثية المتطرفة وبقدر أهمية الاستثمار في البنية التحتية الشعبية في اليمن.
الحياة اللندنية