في قمتها الثالثة عشرة التي عقدت في سنغافورة في الأسبوع الماضي, والذي تزامنت مع الذكري السنوية الأربعين لتأسيسها في عام 1967 كعمل جماعي ضد محاولات الاتحاد السوفييتي وحلفائها التمدد في جنوب شرق آسيا قبل أن تنتقل حصريا إلي أهداف التعاون والتنسيق والتكامل الاقتصادي والتنموي مع شيء من الاستراتيجيات الجماعية للتعامل مع بروز الصين كقوة منافسة, بدت رابطة أمم جنوب شرق آسيا أو ”آسيان” في مأزق حقيقي. أما السبب فكان تطورات الأوضاع وتفاقمها في بورما, الدولة العضو التي بسياساتها الخرقاء وقمعها الممنهج ضد نشطاء الديموقراطية وحقوق الإنسان واستهانتها بجهود الوسطاء الدوليين والإقليميين شوهت صورة المنظومة ومصداقيتها. والمعلوم أن الأخيرة تجاهلت الاعتراضات الأمريكية والأوروبية ومنحت عضويتها لبورما في أواخر التسعينيات من منطلق أن ذلك سيكفل اعتدال نظام رانجون العسكري ويخفف من رعونته ويحول دون ارتمائه بالكامل في أحضان الصين, وهو ما ثبت فشله فشلا ذريعا, حيث استفادت بورما من عضويتها لفك عزلتها ونيل المساعدات الإنمائية وتنمية مواردها المالية من التصدير إلي دول المنظومة دون أن تقدم في المقابل شيئا.
غير أن الانقسام داخل المنظومة حول كيفية معالجة الوضع البورمي, والذي تراوح ما بين موقف متشدد كموقف الفليبين التي تعتبر من أكثر الأعضاء انتقادا لنظام رانجون وممارسته القمعية ومطالبة بإطلاق سراح قادة المعارضة الديموقراطية, وموقف مهادن كموقف تايلاند وبروناي ودول الهند الصينية, وموقف وسطي كموقف سنغافورة التي تبنت دون نجاح اقتراح دعوة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلي بورما إبراهيم غمبري للحديث في اجتماع القمة, وكموقف إندونيسيا المستاءة من استخفاف رانجون بمبادرات وجهود رئيسها سيسليو بامبانغ يودويونو لحل القضية في مايو الماضي, لم يمنع القمة من إصدار بيان صريح يطالب النظام البورمي بإطلاق سراح كافة معتقلي الرأي ورموز المعارضة وتدشين حوار جاد معهم يساعد علي انتقال البلاد سلميا نحو الديموقراطية. وهذا بطبيعة الحال يعكس سياسة جديدة لمنظومة آسيان, ويغري بالقول إن الأخيرة في طور التخلي عن مبدأ ”عدم التدخل في الشئون الداخلية للأعضاء” ومعه مبدأ ”ضرورة اتخاذ القرارات بالإجماع”, وهما ما أعاب عمل المنظومة طويلا وجعلها عرضة لانتقادات مريرة, علي الرغم من وجود حالات سابقة حاولت فيها المنظومة التمرد علي المبدأين, مثل قيامها بالوساطة في قضية تيمور الشرقية وتدخلها في الأزمة السياسية في كمبوديا قبل عقد من الزمن.
وبالمثل فان الانقسام المذكور لم يمنع آسيان من اتخاذ خطوة تعتبر بحق تدشينا لمرحلة جديدة من تاريخها, من بعد نجاحها المشهود خلال العقود الأربعة الماضية في توفير الاستقرار والأمن الإقليميين اللذين شكلا وقودا وحافزا للنهضة الاقتصادية والتنموية الراهنة, وبالتالي البروز كثاني أنجح تكتل إقليمي بعد الاتحاد الأوربي. ونعني بهذه الخطوة التوقيع علي ميثاق جديد هو بمثابة الدستور الذي سيجري وفقه تعبيد الطريق نحو إقامة ”الجماعة الجنوب شرق آسيوية” علي غرار الجماعة الأوروبية. أما أبرز الأمور التي تضمنها هذا الميثاق المكون من 55 مادة, والذي جاء ثمرة لجهود استغرقت عامين وشارك فيها رسميون وأكاديميون وخبراء, فقد كان الالتزام بالديموقراطية نهجا, والتعهد باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية و مباديء القانون و إقامة الحكم الرشيد.
وبقدر ما توقف الكثيرون عند هذه الالتزامات للإشادة بها واعتبارها امتحانا لمدي جدية دول المنظومة وقدرتها علي المواءمة ما بين ظروفها وخصوصياتها من جهة و متطلبات التوحد والاندماج وفق المعايير والاشتراطات السائدة في عالم اليوم, فإن آخرين بادروا إلي التشكيك معتبرين أن الميثاق الجديد جاء فضفاضا وخاليا من التفاصيل الدقيقة, ومذكرين بالعقبات التي تحول دون تنفيذ بعض الأعضاء للالتزامات المذكورة آنفا بحلول عام 2015 , وهو العام الذي قررته المنظومة كحد أقصي لإعلان قيام السوق الجنوب شرق آسيوي المشترك.
ومما ذكر في سياق الحديث عن العقبات, تمسك النظام الحاكم في بورما بنهجه القمعي الديكتاتوري, وهيمنة الشيوعيين علي الحكم في فيتنام دون وجود بوادر للتقدم نحو الإصلاح السياسي والتعددية الحزبية, والملكية المطلقة في بروناي, والغموض الذي يشوب تخلي العسكر في تايلاند عن السلطة لصالح حكومة مدنية حقيقية. هذا ناهيك عن صعوبة تخلي الدول الأعضاء بسهولة عن بعض المسائل السيادية لصالح كيان فوق قطري, علي نحو ما أثبتته استماتتها خلال العقود الماضية لقطع الطريق علي أية محاولات من جانب المنظومة للتدخل في شئونها الخاصة, بل رفضها الحاسم لتوقيع أية عقوبات علي الأعضاء غير الملتزمين بمباديء الديموقراطية وحقوق الإنسان داخل حدودهم.
وردا علي هذه الانتقادات وما قيل عن المنظومة بأنها تمر في وضع أشبه ما يكون بأزمة الإنسان في منتصف العمر, اعترف وزير خارجية تايلاند السابق ”سورين بيتسوان” الذي سيتولي منصب الأمين العام لآسيان في يناير المقبل, بأن الميثاق الجديد قد لا يلبي كل الطموحات, لكنه أفضل المتاح والممكن في ظل الأوضاع الحالية, مضيفا أن الضغوط الاقتصادية الناجمة عن العولمة والمنافسة الشديدة من قبل الصين والهند سوف يجبران الدول الأعضاء علي تعديل الكثير من مواقفها لاحقا.
علي أن ما ذكرناه من عقبات وتحديات ليس كل شيء. فالميثاق الجديد يؤكد مثلا علي ضرورة خلق هوية واحدة ورؤية موحدة كأساس لقيام الجماعة الجنوب شرق آسيوية, لكنه لا يتحدث عن كيفية الوصول إلي ذلك الهدف في ضوء التنوع الثقافي الحاد بين شعوب آسيان البالغ عددها 577 مليون نسمة, ووجود أقطار إسلامية الهوية كإندونيسيا وماليزيا وبروناي وأخري بوذية مثل تايلاند وكمبوديا ولاوس وبورما, إضافة إلي الفليبين ذات الثقافة الكاثوليكية. هذا التنوع الذي كان إلي وقت قريب مصدر غني وإبداع, فإذا به في السنوات الأخيرة يتحول إلي مصدر للشقاق والانقسام بفضل ظهور التيارات المتشددة وتبني بعضها لأساليب عنيفة مستوردة.
وهنا أيضا يرد سورين بيتسوان, الذي يعتبر مفكرا تايلانديا بارزا من جنوب البلاد المسلم ومن دعاة المصالحة والحلول السلمية لإنهاء التمرد الإسلامي الانفصالي في جنوب تايلاند, في مقابلة أجريت معه مؤخرا في واشنطون قائلا: إن علي شعوب آسيان أن تخلق لنفسها هوية مزدوجة بمعني أن تكون لها هوية قطرية وأخري إقليمية, مع ضرورة إبداء قدر أكبر من التسامح مع الآخر الغربي والتعاون معه بعيدا عن الأيديولوجيات العقيمة والأفكار المسبقة وإثارة القضايا الخلافية التاريخية. وكحل لظاهرة التطرف والتشدد الدخيلة التي وجدت في أوساط المهمشين والفقراء وقليلي التعليم أرضا خصبة للنمو , يقترح سوريون قيام آسيان بجهود جماعية أكبر لدمج هؤلاء في مجتمعات حديثة ورفع مستوياتهم المعيشية وتحصينهم علميا ضد ثقافة التطرف والكراهية والعنف.
وأخيرا فإن الميثاق الجديد يتحدث عن ضرورة خلق مستويات اقتصادية متقاربة بين دول المنظومة كمقدمة لاندماجها في كيان اقتصادي واحد, دونما الإشارة إلي السياسات والأدوات التي يمكن من خلالها تضييق الفجوة القائمة حاليا بين اقتصاديات صناعية يبلغ معدل دخل الفرد السنوي فيها 30 ألف دولار مثل سنغافورة, واقتصاديات صناعية/زراعية يبلغ المعدل دخل الفرد السنوي فيها 1600 دولار كإندونيسيا, واقتصاديات زراعية متخلفة ككمبوديا ولاوس حيث الرقم لا يتجاوز 200 دولار. ومثل هذا الهدف يتطلب بطبيعة الحال سرعة و جدية أكبر من المنظومة لجهة إزالة الحواجز الجمركية بين أعضائها, مع الاسترشاد بما فعلته دول الاتحاد الأوربي الصناعية الغنية للارتقاء بأحوال زميلاتها الأضعف اقتصاديا والأقل نموا.
[email protected]