فوز باراك أوباما في انتخابات الرئاسة الأمريكية ودخوله البيت الأبيض كأول رئيس غير أبيض من جذور أفريقية حدث تاريخي له مدلولات عميقة…إنه درس تقدمه الديموقراطية الأمريكية للعالم تثبت فيه أن فكرة الحلم الأمريكي ليست خيالا بل إن أمريكا بلد الفرصة التي لاتستعصي علي أحد…بلد المواطنة التي لا تتنكر لأحد…بلد الانتماء الذي لايفتقده أحد.
عن بعد وفي النصف الآخر من العالم أتأمل بإعجاب شديد نجاح أوباما الذي انتظرته ,ليس لأن أوباما أفضل للشعب الأمريكي ,فالشعب الأمريكي حر في اختيار رئيسه كيفما يشاء,وليس لأن أوباما سياساته أفضل لمنطقتنا,فقد تعلمت أن السياسة الأمريكية ترسمها المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة دون سواها…لكن انتظرته,وتوجست خشية ألا يحدث أو أن تتغير اتجاهات الناخب الأمريكي الأبيض في اللحظات الأخيرة مثلما تحفظت بعض استطلاعات الرأي,فسعدت كثيرا بما انتهت إليه إرادة ذلك الناخب لأنها جسدت النهاية الجميلة لنحو قرنين من النضال الإنساني في تلك الأرض الجديدة لنشر الحرية والعدل والمساواة.
فوز باراك أوباما تتويج لنضال أجيال متلاحقة بدءا من إبراهام لنكولن محرر العبيد…أجيال اشتاقت طويلا للحرية والمساواة وعانت كثيرا من قساوة الفرز العنصري…أجيال تركت وراءها أنهارا من من العرق والدموع وجبالا من الذل والهوان في مجتمع انقسم إلي سادة بيض وعبيد سود…أجيال عاشت تحلم بالخروج من النفق المظلم وأفرزت من أجل ذلك أبطالا كثيرين رفعوا لواء الحرية والمساواة..طابور طويل من المناضلين كان ختامه المناضل العظيم مارتن لوثر كنج في ستينيات القرن الماضي الذي اشتاق إلي الحلم الأمريكي ثم دفع حياته ثمنا له دون أن يراه يتحقق,لكن كما تنبأ تحقق الحلم ليراه أولاده ويستعيدون به كرامتهم ومواطنتهم عندما وقع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية عام 1968 واضعا النهاية السعيدة لعصور التفرقة والفرز العنصري ومرسخا معايير المواطنة الكاملة لكل مواطن أمريكي بغض النظر عن الأصل أو الجنس أو اللون أو العقيدة.
لم تتجسد عظمة قانون الحقوق المدنية في صدوره أو في الاحتفال بتوقيعه ,إنما تجسدت في مشاهد لاتنسي عندما تصدي الرجل الأبيض نفسه لتنفيذ القانون وفرض احترامه رغم المعارضة الشرسة والمقاومة العنيفة من دعاة التفرقة العنصرية…مشاهد عظيمة سجلها التاريخ لحكام الولايات والمقاطعات,لقائدي أجهزة الشرطة,لرجال الشرطة-وكلهم من البيض-وهم يمسكون بالمواطنين السود ليدخلوهم عنوة وسط حشود العنصريين البيض إلي محل تجاري أو ناد أو مرفق كان قبلا مقصورا علي البيض وحدهم,أو يمسكون بأيدي تلاميذ وتلميذات سود يفتحون أمامهم أبواب مدارس كان قبلا تمتنع عن قبولهم…ثم جاءت بعد ذلك موجة التشريعات الخاصة بالتمييز الإيجابي والتي منحت الفرصة للسود بتخصيص نسب محددة لهم في مجالات العمل المختلفة تعويضا لهم عن سنوات القهر وانعدام المساواة.
لا أقول إن أمريكا تحولت إلي يوتوبيا تسود فيها عدالة السماء,فلاتزال توجد فيها-كأي بلد طبيعي-التجاوزات والنقائص, وسوف يظل بها طول الوقت فقراء ومعذبون ومقهورون,سواء بسبب عدم مقدرتهم أو بسبب جنسهم أو لونهم أو دينهم,لكن في المقابل هناك ملايين السود الذين نجحوا وتميزوا وبرعوا والتقطوا الفرصة فأثبتوا أنهم إذا أرادوا لايقف عائق يفرضه المجتمع أمام نبوغهم وتطلعاتهم…حتي إذا كانت تلك التطلعات هي الوصول إلي قمة السلطة والتربع علي كرسي الحكم…هكذا فعل باراك أوباما وهكذا سمحت له مواطنته أن يخوض سباق الرئاسة وأن يترشح من جانب حزبه وأن يصل للبيت الأبيض بمباركة وتعضيد مواطنيه البيض قبل السود…مهما كان أداء أوباما خلال وجوده في البيت الأبيض ومهما كانت درجات نجاحه السياسي سيظل ماحدث تجسيدا للحلم الأمريكي ودرسا في الديموقراطية للعالم وانتصارا لقيمة الإنسان.