يمتلك الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي مع جسارة الدخول إلي مناطق الألغام الثقافية سلاح المعرفة العلمية.وما ذكره عن اللغة القبطية لا يرفضه إلا المتسلحون بالعواطف الدينية أو التوجهات السياسية.وأعتقد أن دور الثقافة السائدة منذ يوليو1952 هو المسئول عن العداء للمعرفة العلمية.وبسبب هذا العداء انتشرت خرافة ارتباط اللغة القبطية بالمسيحية,رغم أنها كانت لغة المصريين قبل مولد السيد المسيح لأكثر من سبعمائة سنة علي الأقل كما أن السيد المسيح نفسه كان يتحدث الآرامية.وعند علماء اللغويات وعلماء المصريات فإن اللغة القبطية آخر مراحل تطور اللغة المصرية القديمة0ولم تتنازل عن مكانتها للغة العربية إلا في القرن السابع عشر للميلاد(معجم الحضارة المصرية ص290)وكتب د.حسين فوزي أن شامبليون توصل إلي أن قواعد النحو القبطي هي قواعد نحو اللغة المصرية القديمة.وترجم نصوصا كاملة في كتابه (الطريقة الهيروغليفية عند قدماء المصريين)(سندباد مصري ص246)وذكر د.حسين فوزي أنه شهد أسرة مصرية يتحدث أعضاؤها فيما بينهم بالقبطية(139)علما أنه كتب كتابه المذكور ما بين سنة1954, 1959.
وكان لمصر أكثر من اسم مثل كيمي أو كيمت ومنها جاءت(الكيمياء) واسم تا-ميري أما اسم (قبط) فهو تحوير لكلمة هور-كا-بتاح- أي معبد روح بتاح التي أصبحتAigyptos في اليونانية ومنها إليEgypt في الإنجليزية.وأضاف مارتن برنال أن هذا الاسم كان اسما لعاصمة مصر السفلي (منف) وحين نصل إلي العصر البرونزي نجد أنه أصبح علي ما يبدو يستخدم للدلالة علي صفة المصري في القسم الشرقي للبحر المتوسط عموما(أثينا أفريقية سوداء ص201) وكتب عالم المصريات فرانسو دوما أن اللغة القبطية هي الطور اللساني الأخير للغة المصرية القديمة(ص806).
وإذا كان العروبيون المصريون يستنكرون أن يكون لنا نحن المصريين لغة خاصة بنا,فبماذا نفسر أن الولاة العرب الذين غزوا مصر كانوا يستخدمون مترجمين لترجمة لغة المصريين إلي لغتهم العربية؟وبماذا نفسر إشارة المؤرخين العرب إلي المصريين بـ(القبط)وذكرت د.سيدة إسماعيل كاشف أن القبط كانوا يتكلمون اللغة القبطية حتي أواخر القرن الرابع الهجري-العاشر الميلادي(مصر في عصر الإخشيديين -ص239) وكتبت(لم يختلط العرب بالمصريين في البداية ولم يكن لهم تأثير يذكر علي القبط,سواء أكان هذا التأثير من ناحية انتشار الدين الإسلامي أو اللغة العربية وكان انتشار اللغة العربية بمصر أبطأ من انتشار الإسلام ودلت وثائق البردي علي أن الحكومة كانت تستخدم العربية واليونانية إلي القرن الثاني الهجري بينما كانت السلطات المحلية في الريف تكتب كثيرا بالقبطية) وأضافت بدهشة العلماء(أن تنازل شعب عريق في المدنية كالشعب المصر عن لغته واتخاذه لغة شعب لا يوازيه في الحضارة أمر غير عادي.وأن المصريين اضطروا إلي تعلم العربية لأنها أصبحت لغة الدواوين الرسمية منذ سنة87 هجرية (مصر في عصر الولاة-من ص140-145).
ونظرا لأن الثقافة السائدة ضد القومية المصرية.فقد انعكس ذلك الموقف علي اللغة المصرية القديمة التي حازت علي اهتمام الشعوب الأوربية وانتقل الولع بعلم المصريات إلي تعلم اللغة المصرية القديمة.بينما نحن المصريين نستخدم في حياتنا اليومية آلاف الكلمات من لغة جدودنا المصريين دون أن نعرف مصدرها مثل كلمةKelka أي كلكوعة.وكلمة غورGhoor بمعني امشي أو ابعد .وكلمة ليس Lops بمعني التباس أو اختلاط الأمر.وكلمة موشي Moushi بمعني مشي أو سار.وكلمة كابايKabai بمعني قفص لحفظ الخضار وصانعهKabathic وهي قريبة جدا من الكلمة المستخدمة حاليا(قفاص) وكلمة Kei كوع أو ذراع.ومن الكلمات الشائعة افرش(الجورنال)فكلمة افرش(قبطي)وسك(الباب)فكلمة سك(قبطي)ونقول يا نطره رخي رخي فكلمة رخي(قبطي) وأشطف الجلابية.فكلمة أشطف(قبطي)والجلابية قبطي وانتقلت إلي العربية,وإديني التليفون.إديني قبطي.والنونو ابن الإية فتفت اللقمة.النونو هيروغليفي.ابن عربي.الإيه قبطي.فتفت قبطي. اللقمة قبطي .وكلنا فول مدمس وبصارة وسريس.هذه الجملة كل كلماتها قبطية ما عدا كلمة واحدة عربية هي كلنا من الفعل أكل.والبيبي مشي تاتا تاتا.البيبي إنجليزي.مشي قبطي وانتقلت إلي العربية تاتا تاتا قبطي.نينه اشترت كشتبان.نينه هيروغليفي.اشترت عربي.كشتبان قبطي وكان المرحوم المفكر إسماعيل أدهم يري أن اللغة التي يتكلمها المصريون لغة مستقلة ليس لها علاقة باللغة العربية.وأقول إنها عامية العربية خطأ.وقال يخاطب جدودنا المصريين(فهذه هي لغتكم وهي أولي بعنايتكم من إحياء لغة بدو لا يربطكم بهم صلة ولا رابط)(قضايا ومناقشات-ج3 دار المعارف عام86 ص65).
وأعتقد أن الخلط بين اللغتين القبطية والمسيحية لن يزول إلا بعد تدريس اللغة المصرية القديمة في المدارس والجامعات كما تفعل دول أوربا.خاصة أننا في حاجة إلي علماء مصريات وعلماء في علم اللغويات حتي نكسر احتكار العلماء الأوربيين (مع الاعتراف بفضلهم علينا)في هذين التخصصين وحتي تكون النتائج خالية من أي أعراض مثل حجب المعلومات المستخلصة من قراءة البرديات إلخ.كما أننا في حاجة إلي أجيال جديدة من المرشدين السياحيين يعرفون لغة جدودهم وبالتالي يصلون إلي مرحلة راقية في مهنتهم ولا يكتفون بالمعلومات الخاطئة التي تدرس لهم ويتجنبون السياح الأوربيين المسلحين بالمعرفة العلمية التي تفتقدها معظم المرشدين المصريين.
وإذا كان المصريون العروبيون ومعهم الأصوليون المسلمون يستنكرون وجود لغة قومية اسمها اللغة القبطية فإن العالم شامبليون لم يتمكن من قراءة النص المكتوب علي حجر رشيد إلا بسبب إجادته للغة القبطية.لذلك يؤرخ العلماء لعلم المصريات بيوم1822/9/14 عندما خرج شامبليون من بيته وهو يجري نحو أكاديمية الكتابات المنقوشة والآداب القديمة وهو يصيح (المسألة في حوزتي)ثم سقط مغشيا عليه كان حل رموز اللغة المصرية القديمة هو البداية الحقيقية لعلم المصريات وقبل شامبليون كانت هناك محاولات سابقة,مثل دور العالم تومس يونج وغيره.إلا أن علم المصريات ولد علي يد شامبليون كان وهو في سن13يدرس اللغات العربية والكلدانية والسريانية بعد أن درس اللاتينية والعبرية ثم تفرغ لدراسة اللغة القبطية.
وكان يخطط لدراسة اللغتين الفارسية والصينية لاحظ شامبليون أن اسم بطليموس يتكرر له النص الواحد المكتوب علي حجر رشيد بثلاث لغات(الهيروغليفة والديموقيطية واليونانية) وتوصل إلي نتيجة مؤداها أنه لكي تكون الهيروغليفية قادرة علي التعبير عن الأسماء اليونانية فمعني ذلك أنها لابد أن تصدر أصواتا وكانت إجادته للغة القبطية هي المدخل للهيروغليفية,حيث اكتشف أن البنية اللغوية واحدة في المرحلتين الهيروغليفية والقبطية.وبالتالي فإن القبطية هي امتداد للهيروغليفية وفي عام1812 قال(استسلمت تماما لدراسة اللغة القبطية كنت منغمسا في هذه اللغة لدرجة أنني كنت ألهو بترجمة كل ما يخطر علي ذهني إلي القبطية كنت اتحدث مع نفسي بالقبطية.كنت أشعر أنني قادر علي تعليم أحدهم قواعدها النحوية في يوم واحد.ولا جدال أن هذه اللغة منحتني مفتاح المنظومة الهيروغليفية).
هذا عالم فرنسي وهو واحد من بين مئات العلماء الأوربيين الذين تخصصوا في علم المصريات وعلم اللغويات.احترموا لغة العلم فعرفوا فضل الحضارة المصرية علي كل شعوب العالم وكان بين الإنجاز الحضاري لجدودنا المصريين القدماء هو كما ذكر عالم المصريات الكبير برستد(تقدمهم في اختراع أقدم نظام كتابي,جعل في أيديهم السيطرة علي طريق التقدم الطويل نحو الحضارة)(فجر الضمير-ص29) لذلك لم تكن مصادفة أن تكتب عالمة المصريات نوبلكور في كتابها(المرأة الفرعونية) عن جدودنا المصريين القدماء(ذلك الشعب الذي أبدع حضارة متقدمة في ذات الوقت الذي كان جدودنا في أوربا قابعين في ظلمات الكهوف) ويصل عشق شامبليون بمصر لدرجة أن يكتب عندما زار مصر عام1828(إنني أتحمل حرارة الجو يبدو أنني ولدت في هذه البلاد)وأمام معبد الكرنك قال(لسنا في أوربا سوي أقزام).