أحمد رامى من عباقرة الشعر والغناء فى مصر، قدم الكثير من روائعه بصوت ام كلثوم معجزة الغناء العربى.
من منا لم يسمع؟ ولا يحفظ درر الغناء العربى: هجرتك.. جددت حبك ليه؟.. دليلى احتار.. ذكريات.. حيرت قلبى معاك وعودت عينى على رؤياك، وغيرها من ابداعاته التى بلغت حوالى ثلثمائة أغنية.
انه شاعر اغانى تردد اغنياته وكلماته الجموع، موظف تخطئه- للأسف- الترقيات، على الرغم من كفاءته والتزمه واتقانه لأربعة لغات هى: الفارسية، الإنجليزية، الفرنسية، والعربية بالطبع، ومع ظلم الوظيفة والمكانة الاجتماعية الا ان الرجل لا يحزن ولا يتشاءم بل تدفعه رومانسيته الشعرية الى ان يهيم فى الورد النائم وليالى القمر، فهو محب للحب ويرضى بظلم الحبيب، بل يهوى السهد والجفا، ويتمايل مع الأغصان على أجمل الألحان.
هو بجانب ذلك باحث طويل الأناة، دءوب، محقق فى قضايا الأدب والفكر والتاريخ، صاحب قاموس من خمسة أجزاء.
تقدم لنا الدكتورة نعمات احمد فؤاد دراسة موضوعية واسعة عن احمد رامى فى كتابها الصغير حجما، الكبيرة فائدة تحت عنوان: احمد رامى قصة شاعر واغنية.. وهو من سلسلة كتب اقرأ التى تصدرها دار المعارف.
ولد احمد رامى فى شهر اغسطس 1892 فى حى الناصرية فى القاهرة، الواقع بين عابدين والسيدة زينب.
كانت الالحان والانغام تنساب الى مهد الطفل واذنه، اذ أن البيت لم يخلو من عازف او مغن او فنان من اصدقاء صاحب البيت. بعد ان تجاوز احمد سنى الطفولة الأولى الى الحداثة اصطحبه والده الطبيب فى سفره الى جزيرة (طشيوز) اليونانية، ووالده هو الدكتور محمد رامى ابن الامير الاى حسن بك عثمان، وقد جاء الى مصر سنة 1870.
فتن احمد وهو فى السابعة بالطبيعة الغناء، وكأن ظروف طفولته فى مصر والموسيقى ثم رحلته الى اليونان وجمال جزرها تعده لأن يكون فنانا كبيرا فى المستقبل. وفى 1901 ودع الجمال الذى عشقه طفلا ليعود الى مصرويلتحق بالمدرسة، وعبثا حاول تاجيل العودة، واصل والده اسفاره لعمله وتركه فى القاهرة لتهتم به عمته فى حى الامام الشافعى، فعاش بين المقابربعد ان كان يتمتع بروعة جزيرة طشيوز، لكنه وجد السلوى فى مكتبة عمته الاديبة الزاخرة، ومد الطفل يده ليمسك باول كتاب شعر قرأه فى حياته وكان عنوانه: مسامرة الحبيب فى الغزل والنسيب..
وهو مقتطفات من شعر الغزل فى عصور عربية مزدهرة. اهتمت عمة الطفل احمد فى تشجيعه على اتقان اللغة العربية وبخاصة بعد ان عاش خارج مصر يتكلم التركية واليونانية فالحقته بكتاب الشيخ رزق ثم مدرسة السيدة عائشة، ثم المدرسة المحمدية 1903، انتقل الطفل بعد ذلك للعيش مع جده لأمه فى مسكن يقع بين مسجد السلطان الحنفى وجامع الشيخ صالح أبى حديد، ومرة أخرى تعد الظروف صبينا الى ان يكون فنانا، فتنساب الى سمعه ووجدانه تراتيل وترانيم وتسابيح الفجر واوقات الصلاة من مآذن المساجد المحيطة بالبيت، حصل أحمد على الشهادة الابتدائية سنة 1907، ثم شهادة البكالوريا، وهى الثانوية العامة الآن سنة 1911، ونظم أول قصيدة له وهو طالب ثانوى 1910 وهى الطائر المغرد وبجانب قراءته لكتاب الشعر الذى وجده فى مكتبة عمته اهتم بالاشتراك فى ندوات المدرسة التحضيرية وجمعية النشأة الحديثة التى امدته بقصائد كثيرة وخبرة كبيرة فى الشعر وفجرت شاعريته فنظم قصائد وطنية وأخرى فى المناسبات، ساعدت المدرسة الخديوية الثانوية ثم مدرسة المعلمين العليا فى صقل موهبة شاعرنا الشاب وبخاصة انه كان زميلا لاحمد زكى وعبد الحميد العبادى وغيرهما، كما تعرف فى نفس الوقت بحافظ ابراهيم واسماعيل صبرى الذى كان له ندوة ادبية شارك فيها رامى. تعرف ايضا على احمد شوقى والتقى به سنة 1920 فى(جروبى)، وعندما سافر رامى فى بعثة علمية الى باريس 1922 كان يلتقى هناك بشوقى وتوثقت صلته به بعد ان عاد من البعثة، اعجب شوقى برامى واختصه بدعواته الى حفلاته فى بيته وقضاء اوقات طيبة معه، كما كان رامى يحب القاء شعر شوقى فى الاندية، وبخاصة أن شوقى كان يرفض قراءة شعره، وكان شوقى يفضل أيضا أن يسمع رامى شعره قبل اخرجه للناس.
بعد ان تخرج رامى فى مدرسة المعلمين العليا سنة 1914، اشتغل بالمدارس الثانوية الأهلية ثم مدرسة القربية الابتدائية الحكومية، وظل بها حتى سنة 1920، ثم صار أمينا لمكتبة مدرسة المعملمين العليا حتى أوفدته الحكومة فى بعثة الى فرنسا لدراسة فن المكتبات، ولما عاد الى مصر عمل بدار الكتب منذ 1924 الى ان بلغ سن المعاش، وكان وكيلا للدار، ومع انه كان موظفا ناجحا فقد ظل 19 سنة فى الدرجة الخامسة، وتقدم عليه وارتقى حامل شهادة ابتدائية فى نفس الوقت الذى خدم فيه الدار واستحدث اسلوب tataih Word اى مفتاح الكتاب ويجعله رأس فيشة يجمع تحتها، وحولها، كل ما كتب عنه متفرقا فى كتب شتى، ويطلق على هذا العمل: فهرس رامى.
وبجانب ذلك قدم رامى:
قاموس البلاد المصرية من أيام الفراعنة الى اليوم. يقع القاموس فى خمسة أجزاء.
لم يشك أحمد رامى من ظلم الوظيفة وعدم أخذ حقه فيها بل كان دائما متفائلا ضحوكا كريما، لعل نفسه الفنانة وعبقريته الشعرية كانت السبب، ومع ذلك كان الحزن يعشش فى نفسه، ولم يكن حزن على ظلم الوظيفة انما حزن فقد الأب والأخ والأخت والإبنة، لقد عرف رامى الألم والحزن لكنه صاغ الدمع أوزاناً، والشكوى آلحاناً، والألم شعراً، فى هذا يقول:
الحزن أدبنى وهذب خاطرى وانالنى افق الخيال السامى
واسال أسراب الدموع فصغتها صوغ المعانى فى شجى نظامى
وارق احساسى ومد عواطفى فوصلت كل الناس فى ارحامى
قاسمتهم احزانهم وحملت من اعبائهم شطراً من الآلام
انها عبقرية التفاؤل فى ان يكيف نفسه على هوى الظروف التى تلم به فيستعلى عليهاويحول حزنها الى فرح وجها مها الى قصائد مغناه. اسمعه بقول فى التفاؤل والأمل:
فالنعش بالمنى فكم صدع البدر حجاب السحابة المدجان
والنعش بالمنى فكم جرت الأقدر بالعز بعد طول الهوان.
يعتبر عام 1924 عاما مهما فى حياة احمد رامى، ففيه تعرف على ام كلثوم، وفيه ايضا اصدر ترجمة رباعيات الخيام بالعربية، وهما حدثان مهمان جدا فى حياة شاعرنا.
فى يوم الخميس 24 يوليو1924 دعا محمد فاضل صديقه احمد رامى ليسهر معه فى حديقة الازبكية، وكان هناك كشك فى المدخل للموسيقى والغناء، فى هذا الكشك سمع رامى لأول مرة أم كلثوم، كانت تغنى بلا آلات موسيقية، كان رامى يجلس فى الصف الأول وقال لها.. مساء الخير يا ستى، أنا حضرت من غربة ونفسى أسمع قصيدتى.
فطنت إليه أم كلثوم بسرعة وقالت:
إزيك ياسى رامى، ثم غنت قصيدته:
الصب تفضحه عيونه وتنم عن وجد شجونه.
سمع رامى قصيدته بصوت أم كلثوم، وكأنه السحر الشجى وخرج من الحافل هائما ولهاناً متيماً بالصوت والشخصية، وبدأت حكاية حب كبيرة بين الشاعر والفنانة والمطربة.
كان الصوت هو السبب الرئيسى لاعجاب رامى بام كلثوم سافرت ام كلثوم فى اليوم التالى الى راس البر وظلت اربعين يوما هناك، شعر خلالها بحبه لها وارتباطه بها، ثم اعلن عن حفل لها فى البوسفور فهرع اليها، ولما رأته غنت للمرة الثانية اغنيته المحببة لديه، وتوثقت علاقتهما، زار رامى ام كلثوم بعد ذلك وراجع لها اسطوانة وهذب بعض الفاظها قبل الصدور، وبدأ رامى يعبر عن حبه بكلمات الأغانى التى تلقفتها لتغنيها وتنهى عصرا من الغناء الهابط الى عصر جديد من الغناء الراقى الوجدانى، عندما مرضت أم كلثوم كتب الشاعر يغنى:
ياللى جفاك المنام عليك أليف السهاد
النوم على حرام وانت طريح السهاد
وتسافر أم كلثوم فيكتب رامى:
أيها الفلك على وشك الرحيل إن لى فى ركبك السادى خليل
رقرقت عيناى لما قال لى حان الوداع
وبكى قلبى مما ذاع فى الكون وشاع
وتعود وتدعوه فيغنى:
رق الحبيب وواعدنى اليوم وكان له مدة غايب عنى
حرصت عينى الليل م النوم لاجل النهار ما يطمنى
صعب على أنام أحسن أشوف فى المنام
غير اللى يتمناه قلبى
واستجمع رامى شجاعته وكتب قصيدته(الى سومة).
صوتك هاج الشجو فى مسمعى وارسل المكنون من ادمعى
سمعته فانساب فى خاطرى للشعر عين ثره المنبع
سلوى من الدنيا تعزى بها قلب شديد الخفق فى أضلعى
كأنما لفظك فى شدوه منحدر من دمع الطبع
فيه صباباتى وفيه الضنى يشكو بتاريخ فؤادى معى
نظمت أشعارى وغنيتها منظومة الحبات من مدمعى
حسبى من الشعر ومن نظمه صوتك يسرى فى صدى مسمعى
غنى وخلى الدمع يرو الذى قد جف من نفسى ولم يينع
يسمع الناس الاغنيات والقصائد فيسبحون فى قمة العاطفة، ويمتعون بنشوة الكلمات وروحانيتها، ويرتفعون الى قمة الحب الحقيقى الخالى من شهوة الجسد وارتباط الماديات، فحب رامى حب الفنان الذى يريد ان يكون شاعرا منطلقا دائما، يبحث عن ملهمة، فما بالك اذا كانت الملهمة أم كلثوم صاحبة الصوت الملائكى الساحر الذى يعشقه منذ أم سمعه لأول مرة؟ انها قصة حب جميلة رائعة أفادت الحياة الفنية وقدمت روائع غنائية مازالت باقية مؤثرة موحية حتى الآن لكل من يسمعها، ويتمتع بها.
تزوج احمد رامى سنة 1935 وغنت ام كلثوم فى حفل زواجه وظلت صديقة العائلة تذهب تزورها من حين الى آخر، ولم تؤثر قصة الحب بين الشاعر والفنانة فقد كانت زوجته مستوعبة الموقف تقدر شاعرية زوجهان.
عام 1924 يمثل اهمية اخرى لشاعرنا الكبير احمد رامى، فقد انتهى فيه من ترجمة رباعيات الخيام، احدى روائع الغناء العربى، ومن اجلها درس اللغة الفارسية لمدة سنتين فى باريس.
يعود اهتمام رامى لرباعيات الخيام الى المرحلة الثانوية حيث وقع فى يده وهو فى السنة الأولى ترجمة البستانى للرباعيات فقرأها وأبهرته وأعجب بمعانى الكلمات وتعبيرات وتأملات صاحبها، وبعد سنتين قرأها مرة ثانية ترجمة محمد السباعى عن الانجليزية، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا فقرأ الرباعيات للمرة الثالثة باللغة الانجليزية هذه المرة عن ترجمة بالانجليزية للمترجم( فتر جيرالد)، فى هذه الترجمة شعر رامى أن القصيدة أكثر من رائعة، وأن الأصل فى لغتها الفارسية لابد وأن يكون أفضل وأمتع وأجمل، وعندما أتيحت له البعثة الدراسية فى باريس طلب بأن يدرس من اللغات الشرقية اللغة الفارسية، وكان هذا الطلب ليحقق امنية دفينة فى نفسه بأن يقرأ الرباعيات فى لغتها الأصلية ويحاول ترجمتها عن الأصل، وكان له ما أراد وأصبح أول شاعر شرقى عربى بترجم رباعيات الخيام شعرا عن الفارسية قلده البعض بعد ذلك مثل الزهاوى والصافى النجفى وحامد الصراف، ومن العراق عبد الحق فاضل.
من الطبيعى أن تختلف الآراء فى ترجمة رامى للرباعيات، فقد أثنى البعض عليه، وهاجمه آخرون، لكن أستاذه:كليمانت هوارHaurt استاذ اللغة الفارسية بمدرسة اللغات الشرقية بباريس قال:
يظهر لى ان الترجمة تشابه الأصل بقدر ما يتمكن الاصطلاح السامى على نقل الاصل الارى. وقد استخدم لغة بسيطة سهلة كلفه عمر حتى ان القارئ لا يجد صعوبة فى متابعة معانيها.. تقول القصيدة ترجمة رامى:
سمعت صوتا هاتفا فى السحر.. نادا من الغيب غفاة البشر
هبوا مائوا كأس المنى.. قبل أن تملأ الكأس كف القدر
لا تشغل البال بماضى الزمان.. ولابات العيش قبل الاوان
واغنم من الحاضر لذاته.. فليس فى طبع الليالى الامان
كتب رامى لأم كلثوم أيضا:
هلت ليالى القمر، غنى الربيع، النوم، غلبت أصالح فى روحى، سهران لوحدى، فاكر. أما أول اغنية كتبها لها فهى خايف يكون حبك لى شفقة على لم يكن رامى يكتب أغنياته بل يغنيها ليلا فى حجرة خافته الضوء بقلم يحمله معه دائما ثم ينتهى منها فى نفس الليلة التى يبدأ كتابتها ثم يذهب ليوقظ البواب ليسمعها له ويعرف رأيه.
كان احمد رامى شاعرا مطبوعا The Born Poet مولودا ليكون شاعرا، ولم تكن رباعيات الخيام ترجمته الوحيدة بل ترجم عن شكسبير هاملت، يوليوس قيصر، العاصفة، وترجم عن بيروت واوبريت عايدة، وعن فرانسو كوبيه ترجم سميراميس وغيره ذلك.
أحمد رامى شاعر كل أمانيه التغنى بالحب والغرام، يعشق بالحب ويهوى الهجر فيه والخصام، ثم رق الحبيب، وجددت حبك ليه، وفاكر لما كنت جنبى.