قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها-(543)
من يتجول في شوارع وسط القاهرة هذه الأيام أو من يتردد عليها بصفة منتظمة سيلاحظ أن أعمال التكسير والحفر لاستبدال الكابلات الكهربائية انتهت وأعقبتها أعمال تجديد شاملة للأرصفة بدأت بتكسير البلاط المغطي لها وتلي ذلك تكسير البردورات الخرسانية واستبدالها ببردورات أسمنتية جديدة تمهيدا لإعادة تبليطها بوحدات جديدة من بلاط الأرصفة.
وبغض النظر عما تسببه أعمال تجديد الأرصفة من إزعاج وعرقلة لحركة المارة من المشاة واضطرارهم لهجر الأرصفة والسير في نهر الطريق مزاحمين حركة السيارات,يبزر تساؤل مرير:هل نحن في بحبوحة من أمرنا ونمتلك وفرة من الإمكانيات المادية حتي نقوم بتجديد كامل لأرصفة منطقة وسط القاهرة بهذا القدر؟!!…ألم يكن ممكنا حصر الأعمال في ترميم الجزء المحدود منها الخاص بمسارات الكابلات الكهربائية والإبقاء علي البردورات الخرسانية وباقي مساحات التبليط التي لم تكن حالتها تستدعي التجديد والإحلال الكامل ترشيدا للإنفاق واختصارا للوقت؟…ألا توجد في محافظة القاهرة-المسئولة عن هذه الأعمال-مناطق وأحياء أولي بالإنفاق عليها ورفع مستوي مرافقها لانتشالها من بؤسها وفقرها وتخلفها أكثر من بعثرة إمكانياتنا المحدودة في إعادة تجميل مناطق علي درجة معقولة ومقبولة من التنسيق والتهذيب؟!!
إن ما أتناوله اليوم يخص منطقة وسط القاهرة ولكنه ليس مقصورا عليها فقد لاحظه مرارا وتكرارا سكان الأحياء الراقية ومرتادو الطرق الرئيسية فيها حيث تجري بين الحين والآخر عمليات تجديد لشبكات الطرق والأرصفة دون أن تكون في حاجة ملحة إلي ذلك…وفي المقابل تترك أحياء ومناطق وشبكات طرق وأرصفة غارقة في الإهمال والتآكل دون أن تمتد إليها خطط التنمية أو التطوير ودون أن يصيبها حظ الانتشال من الفوضي والعشوائية التي تكتنف أرجاءها وتحيل حياة سكانها والمترددين عليها إلي عذاب ومعاناة علي الدوام.
فنحن نحسد المناطق المحظوظة علي تعاقب مشروعات تطويرها وتجديد رونقها دون حاجة فعلية إلي ذلك بينما تنتشر حولنا عشوائيات لاتعرف الطرق بمعاييرها الهندسية والحضارية المعروفة لأن الناس تتحرك فيها-سواء كانت حركة سيارات أو دواب أو مشاة- مختلطة مع بعضها البعض ترتاد شبكات من المدقات غير المستوية-وغير المعبدة هندسيا والتي اكتسبت أوضاعها البالية كمسارات مطروقة من كونها معرضة للدمك المتواصل نتيجة مرور السيارات عليها,لكن لا وجود لأي طبقات أساس لتأهيلها كطرق للحركة ناهيك عن أنها لم تعرف طبقات الأسفلت أصلا!!…أما عن الأرصفة فتلك عناصر خيالية لا وجود لها ولم يسمع بها سكان هذه المناطق!!.
الأمثلة عن تلك المناطق التي تنتشر في محافظة القاهرة كثيرة وأظن أنني لو دعوت القراء للكتابة لي عنها سيغمرونني بفيض من الأحياء والمناطق التي قد أعرفها أو التي سأتعرف عليها,لكن الجدير بالذكر أنني عندما ذكرت لصديق مثال مدينة السلام الواقعة في أطراف القاهرة كنموذج لمنطقة تنتمي مرافقها محمد علي-في بدايات القرن التاسع عشر-بادرني بالقول:وتروح بعيد ليه؟إنت عمرك ماشفت المناطق الواقعة خلف الحائط الحضاري الجميل اللي اتبني علي كورنيش النيل من وكالة البلح وحتي روض الفرج؟الفرق الزمني بين الصف الأول المطل علي النيل ومايقع خلفه علي الأقل قرنان من الزمان!!
ويقول قائل:إن أعمال التجديد في وسط القاهرة -أوني غيرها-وتكرار مشروعات التطوير والإحلال هي في حد ذاتها ظاهرة إيجابية لدوران عجلة الاقتصاد,فهذه الأعمال تمثل رواجا لمصانع كثيرة يتم استخدام منتجاتها ولمقاولين عديدين يتولون تنفيذها,وذلك ينعكس علي توفير فرض عمل ومصادر رزق لأعداد هائلة من كافة مراتب العمالة والإدارة التي تعمل في تلك المجالات…وذلك منطق حقيقي وتبرير مقبول لا اعتراض عليه…إنما يظل التساؤل:وماذا لو تم توجيه الإمكانات المتاحة واستخدام منتجات المصانع وإسناد الأعمال للمقاولين وتأمين فرص العمل والرزق للعمالة والإدارة نحو الأحياء المحرومة والمناطق التي تعاني التخلف والفوضي والعشوائيات والتي ترقد في أمس الحاجة لانتشالها من الهمجية إلي المدنية؟!!
إذا كانت الموارد المتاحة لتنمية بلادنا محدودة-وهذا أمر مفهوم-لا يجب أن تكون حكمتنا في ترشيد استخدامها محدودة أيضا!!