الحياة مدرسة.. الله مؤسسها ونحن تلاميذها والزمن معلمنا وهيئة التدريس بها التجارب وكتبها وجوه الناس.
لقد تناولنا في العدد الماضي الوقت من ذهب وأهميته, واليوم نستكمل حديثنا بالحياة التي نعيشها, وكيف نستغلها من أجل الخير العام.
الكاتبة الأمريكية Ellen Sturgis Hooper تفتح قلبها هكذا: نمت وحلمت بأن الحياة ما هي إلا جمالا, وعندما استيقظت اكتشفت أنها واجب. هذه المقولة بسيطة وعميقة ولكنها غير مكتملة, لأن الحياة ليست واجبا فقط, وإنما هي جمال ومرح وصفاء وسعادة, وبالرغم من هذا كله إلا أن البعض لا يدخل الحياة بقدمين, ولكنهم يسيرون فيها بقدم واحدة عالقة بين الأحلام والانتظار وخيبة الأمل, دون أن يقوموا بواجبهم تجاه الله والمجتمع. فالحياة الحقة الخالدة التي تناسب الإنسان ليست في أن يخلد إلي الراحة, ويحصد ما لم يزرع, ويتذوق الثمار الطيبة التي جناها غيره, غارقا في الكسل والخمول, رافضا بذل أي جهد ويلهث وراء مختلف أنواع اللهو والمتعة فقط, لكنها تكمن في عمل الخير وبذل الجهد من أجل الآخرين, لأن قيمة الحياة ليست في طولها ولكن في استثمارنا لها. فمن الممكن أن يعيش الإنسان عمرا طويلا, ولكن حياته تعتبر قصيرة جدا لأنه لم يستثمرها من أجل الآخرين كما يجب. فالساعة الزمنية واحدة بالنسبة للجميع ولكنها تختلف في قيمتها الجوهرية, هناك من يحمل علي كتفيه أعواما عديدة لكنها فارغة بلا معني, وفي ذات الوقت نجد من عاش أياما قليلة ولكنها غنية بالأعمال المختلفة التي تعطي معني لحياته.
يقول القديس أوغسطينوس: المجد.. ما هو إلا الحب, والحب.. ما هو إلا الحياة, إذا, لو أردت أن تحيا, أحبب, وعندما تحب فأنت جميل, لكن إذا كان ينقصك هذا الجمال, فأنت لا تعيش. إنه ينسج الخيوط بين الجمال والحب والحياة, وهذا المثلث عندما ينقصه أحد الأضلاع, سيفقد الطعم والعظمة والجاذبية والطاقة الحية. ومن يعش الحياة كما يحب, يضمن لنفسه الرضا في هذه الحياة والسعادة ساعة الموت.
نستطيع أن نفهم هذا من الخبرة التي عاشها الفيلسوف نيتشه وعبر عنها علي لسان الشيطان في كتابه (هكذا تكلم زرادشت): ليس هذا بالخطر القليل الذي تتعرض له أيها الروح المتحرر, أيها المسافر, لقد ذقت نهارا رديئا مرا (الحياة), فاحذر أن يخيم عليك ليل أكثر ظلمة (الموت). من المؤسف أنك أخطأت الهدف! فكيف ستعوض هذه الخسارة أو تتعزي عنها؟ كما أنك ضللت الطريق أيضا. لذلك يجب علي كل واحد منا أن يسأل ذاته: كيف قضيت أعوامي الماضية؟ هل قمت بأعمال مفيدة من أجل الغير؟ إذا يجب علينا أن نقوم بواجباتنا في هذه الحياة بكل أمانة وإخلاص مهما كلفنا الأمر, لأن الله سيعضدنا في كل حين.
يقول عالم النفس الفرنسي Jean La Bruyere: توجد ثلاث مراحل في حياتنا: الميلاد والحياة والموت. كل شخص منا لا يعي بميلاده, ويموت بالألم, لكنه ينسي أن يعيش.. خلاف ذلك, نجد الغالبية العظمي تقضي النصف الأول من عمرها بطريقة تجعل النصف الثاني تعيسا ومريرا.
من المحتمل أن يعترض البعض علي هذا الكلام, ولكن هذا هو الواقع المؤلم لمعظم الناس, إنهم يعيشون حياتهم غير مبالين بالقيام بعمل مفيد سواء في الأسرة أو المجتمع. إذا كل واحد منا له رسالة مهمة يجب أن يؤديها علي أكمل وجه, وسينال من السعادة مقدار ما يمنحه منها للآخرين, كما يجب ألا نجعل هدفنا في الحياة المأكل والمشرب والملبس فقط. بناء علي ذلك يجب أن نحسن استعمال دنيانا, دون أن نهمل العناية بآخرتنا, ليس المطلوب منا أن نزهد في الحياة وخيراتها, لكن أن نحسن استعمالها بحيث تعود علينا بالنفع ونستطيع بها تقديم رسالة للآخرين, وكما يقول داود النبي: يارب, عرفني أجلي وعدد أيام حياتي, لكي أعرف مدي زوالي. ها إنك جعلت أيامي أشبارا, وليس عمري أمامك إلا عدما, بل ما كل بشر حي إلا نفخة (مزمور38:5-6).
ليس من السهل أن نكتشف جمال الحياة وعذوبتها, لذلك يجب في كل صباح أن نري فيها عطية من الله تطلب مجهودا وتضحية منا, فهي ليست عبئا أو كابوسا, لذلك يجب أن نعبرها بشجاعة ورجاء دون خوف أو قلق حتي نصل إلي بر الأمان.
نختم بكلمات الكاتب الساخر جورج برناردشو: الحياة ليست شمعة صغيرة في يدي.. إنها مصباح يشع ضوءا قويا, وهي في يدي الآن, وأنا أريده أن يضيء بقوة أكبر, قبل أن أسلمه لتلك الأيدي التي سوف تأتي من بعدي.