قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (689)
لا أكاد ألتقي أحدا إلا وكان الحديث عن غلاء الأسعار وكأس العالم لكرة القدم… وأظن أن حكومتنا بالقطع ممتنة لتزامن ارتفاع الأسعار مع أحداث كأس العالم لتتوزع انفعالات المواطنين بينهما ..!!.. لكن علي أي حال لا يغيب عنها أن سرعان ما تنتهي فعاليات كأس العالم ويعود تركيز المواطنين علي أحوالهم ومعركتهم الأزلية مع ارتفاع الأسعار وتداعياته في حياتهم اليومية.
لست أود من هذا الحديث أن أشجب وأستنكر سياسات رفع الأسعار سواء كانت تنطبق علي المرافق أو الخدمات أو الطاقة والوقود والمحروقات, فأنا أتفهم تماما تحديات الإصلاح الاقتصادي الذي تسير عليه مصر والتي تحتم أن تفطم مصر الأم أطفالها المواطنين عن حمايتهم غير المشروطة ورعايتهم وتدليلهم, وتجعلهم شركاء في الإصلاح والتنمية… وذلك يستوجب التصدي بشجاعة لتطوير مرافق الخدمات ورفع الدعم عنها, الأمر الذي يتيح تحرير جميع الأسعار بحيث تعبر عن القيمة الحقيقية للخدمة أو السلعة وما يترتب علي ذلك من عوائد ضخمة تجنيها الدولة يعاد توجيهها للتنمية والاستثمار والإصلاح ورفع مستوي معيشة الطبقات الكادحة والمعدمة والفقيرة, في تطبيق عملي لمقولة وصول الدعم لمستحقيه التي طالما رددتها الحكومات المتعاقبة وكان القصد منها أن الإبقاء علي دعم الأسعار يستفيد منه القادرين مع غير القادرين بينما رفع الدعم بزيادة الأسعار يجعل القادرون يتحملون عبء التكاليف الحقيقية للمعيشة ويضع فائضا في حوزة الدولة توجهه لغير القادرين سواء برفع رواتبهم أو معاشاتهم أو تطوير وتحديث المرافق والخدمات التي يستخدمونها.
وليس أدل علي ذلك من الخطط الطموحة المعلنة عن تطوير وتحديث مرفقي مترو الأنفاق والسكك الحديدية عقب زيادة أسعار التذاكر فيهما… أيضا ما أعلنه وزير المالية في الحكومة الجديدة في منتصف الشهر الماضي -بعد رفع أسعار الوقود والمحروقات- من الحدود المالية للعلاوات التي ستطبق علي الأجور والمعاشات بدءا من هذا الشهر بالإضافة إلي رفع حد الإعفاء لضريبة الدخل وزيادة الخصم الضريبي علي شرائح الدخول المنخفضة في تطبيق صريح وقوي لمبدأ وصول الدعم لمستحقيه.
لذلك كله أجدني دائما في نقاش مستمر مع من ألتقي -وحتي مع زملائي في أسرة تحرير وطني- مؤداه أننا لا يصح أن نكتفي بإلقاء الضوء علي صرخات المواطنين من جراء ارتفاع الأسعار, لكن علينا مسئولية تبصيرهم وتوعيتهم بجدوي السياسات المتبعة في الإصلاح الاقتصادي والتي في معظم الأحوال تكون الدواء المر وتحمل في طياتها المعاناة لكنها تمثل العلاج الشافي وترفع من شأن غير القادرين والمحرومين والمعوزين.
لكن بعد إيفاء الدولة حقها في تبرير سياسات رفع الدعم وزيادة الأسعار يبقي أمر مأخوذ علي الدولة ذاتها ولم يعد من المقبول السكوت عليه, وهو يخص الأساليب التي تتبعها الحكومات المتعاقبة في فرض زيادات الأسعار سواء في توقيتات الإعلان عنها أو في مقدار زيادتها… فهذا الأمر يكتنفه الغموض والمواربة وتعوزه الشفافية وكأن الحكومات تخشاه وتتحايل عليه فيأتي صادما للمواطن دون سابق إعداد أو توعية, كما أن تلك الزيادات تأتي علي فترات زمنية متباعدة جدا فيكون مقدار الزيادة مبالغا فيه لا يستطيع المواطن امتصاصه أو مواءمة حياته وميزانيته عليه.
إن جميع العارفين بحقائق الاقتصاد المصري والمتابعين لتطوراته واتفاقيات مصر مع مؤسسات التمويل الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي يعرفون تماما أن الحكومة المصرية رسمت سياساتها منذ نحو عامين بحيث يتم تحرير سعر الصرف للجنيه المصري -وذلك تحقق بالفعل وأتي بثماره الإيجابية- ورفع الدعم عن السلع والخدمات بحلول عام 2020 فلماذا تتكتم الحكومة ذلك وتصر علي تمريره بطريقة عشوائية مريبة يفاجأ بها المواطنون وتقتضي جهودا هائلة عقب كل مرة لامتصاص ثورة الغضب والاحتجاج التي تنتج عنه؟… لماذا لا تعلن الحكومة عن نسب زيادة محدودة لا تتجاوز 10% وتطبق بمعدل زمني ربع سنوي وبشكل منتظم حتي نبلغ الهدف المخطط له بحلول عام 2020 وبحيث يكون المواطنون عارفين ومتوقعين تلك الزيادات ويكون رجال الأعمال والمستثمرون أيضا قادرين علي حساب تبعاتها مسبقا علي أعمالهم واستثماراتهم؟
لا يكفي أن تكون السياسات المتبعة صحيحة وفاعلة بل يلزم أن يتم تسويقها جيدا وبكل شفافية للمواطنين حتي يتوقعوها ويتفهموها ويتحملوا تبعاتها… وحتي يتخلصوا من الهاجس الذي يسيطر عليهم بأن الحكومة تتربص بهم ولا تتورع عن ملاحقتهم بالضرر… ولأن شر البلية ما يضحك دعوني أنقل لكم ما جاء علي مواقع التواصل الاجتماعي أثناء احتباس أنفاس المصريين خلال متابعتهم مباراة نهائي دوري الأبطال في كرة القدم بين فريقي ريال مدريد وليفربول في مايو الماضي والتي شهدت تحول العشق المصري الأزلي لنادي ريال مدريد إلي تشجيع هستيري لنادي ليفربول بسبب نجمنا المحبوب محمد صلاح الذي يلعب له… ففي لفتة رائعة تدل علي الحس الصادق للمواطن المصري وعبقريته في السخرية من واقعه كتب أحدهم علي موقع التواصل الاجتماعي أثناء سير المباراة: ياخواننا شوية يتابعوا الماتش وشوية يخللوا عينهم علي وزارة البترول لاتعملها فينا وترفع الأسعار…!!!