العنف والقتل…من أين يولدا؟نحن نعيش في عالم يغوص في العنف والبغض واحتقار الآخر,لماذا كل هذا؟من المتوقع أن يحدث مثل ذلك عندما ينتزع من الإنسان وجهه الذي منحه الله إياه,فعندما نعتبر الأشخاص مجرد أعداد علينا أن نقلق,لا نستطيع أن ننكر بأن إحصاء البشر واجب مفروض علينا,ولكن بشرط أن نحقق لكل فرد آدميته واستحقاقه.لكن الكارثة الكبري عندما نصل بالإنسان إلي لحظة اعتباره عددا وشيئا وفريسة للآخرين,فالله منح الإنسان نعمة الكلمة لا ليحصي بها الآخرين فقط,ولكن لتصبح أداة اتصال وتبادل بين البشر.
نحن نعيش في عالم يزيل ويمحو وجه الإنسان ,ويحرمه من نعمة تميزه عن الآخرين وفرادته عنهم كثير من المجتمعات تعتبر أفرادها عبارة عن حشد أو حزمة من الناس فقط,فالمجتمع الذي لايعطي أهمية لوجه الإنسان,هو مجتمع يقود أفراده إلي العبودية,أي يجعلهم عبيدا.ونستطيع أن نشبه ذلك بمجموعة من الأسري المكبلين ويجلسون بطريقة يكون فيها ظهر الواحد مواجها لظهر الآخر,حتي لا يستطيع أي منهم أي يري وجه الآخر.
للأسف نحن نعيش في عصر بدأنا نفقد فيه الاسم كما فقدنا من قبل الوجه والملامح وتم تبديلهما برقم أو سجل أو حرف أو بطاقة مغناطيسية وأصبح فيه البشر عبارة عن حيز من الجماعة أو البضاعة,أي مجموعة من الناس لهم وجه واحد فقط بدون ملامح,فالتاجر يري فيهم زبائن وليس وجوها متميزة,وكل ما يهمه من سيشتري أكثر أو يدفع أعلي سعر.وأصحاب الشعارات يعتبرونهم جمعا غفيرا لا وجوه لهم.لكن يجب أن يكون كل شخص منهم مميزا وفريدا من نوعه لأن وجودنا في هذه الحياة معناه المشاركة معا والانفتاح علي الأخر وتحمل المسئولية تجاهه,والكينونة هي أن نكون أنفسنا وأن نكون مع الآخر,وخاصة نكون من أجل الآخر.
إذا يجب أن نعي ذلك,من يريد أن يرتكب جريمة قتل أول خطوة يقوم بها هي نزع قيمة الآخر,ويمحو وجهه الإنساني,وهذا ما ارتكبه النازيون مع أعدائهم لأنهم لم يعتبروهم شيئا ,وقبل أن ينزعوا ملابسهم والحلي التي يرتدونها,محوا وجوههم,وبناء علي ذلك أصبحوا هؤلاء الضحايا بلا وجه ولا كرامة,وتحولوا إلي رقم محفور علي ذراعهم,سلبوهم الجانب الإنساني حتي أصبحوا أرقاما وأحرفا وسجلات ونكتشف جزئية مهمة جدا ذات معني كبير عندما نسمع شهادة الذين هربوا من معسكرات الإبادة وهي أنهم يعتبرون امتلاكهم أو حصولهم علي جزء صغير من المرآة هو كنز لايعوض,وكانوا يدافعون عنه بشتي الطرق حتي أنهم يمررونها من يد لأخري بحذر شديد,لأن الجميع كانوا لديهم اشتياق شديد للحصول عليها,وفي اللحظة التي يخرج فيها الشخص هذه المرآة العجيبة كان يهجم عليه الجمع ليطالبوا دورهم لأن كل شخص يريد أن يري صورته في المرآة,ولم يكن الهدف من ذلك أن يتأكد إذا نقص وزنه أم لا,أو كان وجهه شاحبا أم لا,ولكن ليتذكز إذا كان مازال لديه وجه أم لا,لأن منه يستمد شخصيته وكيانه.
وفي الواقع,كثير من هؤلاء البؤساء كانوا يشتكون بأنهم نسوا وجوههم,والنظر في المرآة يعني التأكد من أنهم بشرا.وكان الأخصائي الاجتماعي Judith Hemmendinger يروي في كتابه(أطفال الخشب الزان):إن بعض الأطفال الأبطال الذين هربوا من أفران المحرقة النازية,كانوا يبحثون عنهم وعندما عثروا عليهم في ستديو للتصوير,سألوهم عن سبب وجودهم فيه,أجاب أحدهم إنهم هربوا إلي هنا ليبحثوا عن وجوههم,ولكي يعيدوها اضطروا إلي التأمل في صورة لهم ليكتشفوها.
من يريد أن يقذف شخصا ما أو يصوب النار تجاهه,عليه ألا ينظر في وجهه ويغلق عينيه حتي لا يراه,وبهذه اللامبالاة يمحو وجه الآخر ويغتاله معنويا ولا يعطيه قيمته,وعندما ينظر إليه نظرة احتقار يحذفه من حياته.ونجد هذه العبارة علي تتر النهاية لأحد الأفلام:علي بعد ثلثمائة متر الآخر هو هدف للقنص,ولكن علي مسافة ثلاثة أمتار فقط هو إنسان.
من يريد أن يطبق الوصية التي تقول:لاتقتل,عليه أن ينظر إلي وجه الآخر ليكتشفه ويظهر للعيان,لكي يصبح وجها نراه ونحترمه.لكن يجب أولا أن نأخذ خطوة مهمة وهي أن نتخلص من الوجه العنيف والعنيد الذي نحمله,ونحرره من كل نزعة تسلط أو استحواذ أو انتهازية ونعيد إليه الشفافية والصفاء والبساطة وقبول الآخر,ولن نحصل علي مستقبل من السلام والاحترام بين البشر إلا عن طريقاتحاد وتآلف الوجوهونختم بقول الحكيم:إن أقصي درجات العذاب…إن عذابك لا يؤلم أحدا.