قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (656)
كتبت الأسبوع الماضي مستعرضا واقع مجلس النواب في دوري انعقاده الأول والثاني ومحاولا تلمس سبيل النهوض بأدائه التشريعي والرقابي في دور انعقاده الحالي -الدور الثالث من خمسة أدوار انعقاد في هذه الدورة البرلمانية- أملا في إدراك حياة سياسية عفية وخريطة حزبية قوية ونضجا ديمقراطيا ممارسة تحت القبة.
وإلي أن يتم إدراك ذلك أظل مثقلا برؤية كنت أتمناها إبان صياغة دستورنا الأخير عام 2013 وتأسفت أنه لم يتم الأخذ بها في لجنة الخمسين: إنها النص علي أن يتشكل البرلمان من غرفتين- مجلس النواب ومجلس الشوري- لما في ذلك من ضمانات جادة لحسن الأداء البرلماني خاصة الجانب التشريعي منه, ولنا في واقعنا البرلماني أسوة حسنة في الدور الذي لعبه مجلس الشوري الأسبق بتشكيله البعيد عن الصراعات الانتخابية والذي ضم نخبة راقية من رموز مصر الفكرية التي ارتقت بآليات المناقشات وتناول اختلاف الرأي وأفرزت حصيلة محترمة من الرؤي لصالح مصر جعلت الكثيرين وأنا منهم يتطلعون إلي الحرص علي الإبقاء عليه في الدستور الجديد مع إعطائه صلاحيات تشريعية ليكون صمام أمان يحمي مجلس النواب من مغبة أي اندفاع أو شطط… لكن للأسف لم يأت الدستور بالغرفة الثانية للبرلمان واكتفي بغرفة واحدة بحجة مضحكة مبكية سيقت في ذلك الوقت هي أنه لا داعي للازدواج وتبديد النفقات (!!!) وهو ما يشير إلي غياب الوعي بدور صمام الأمان علاوة علي افتقاد آليات ضبط نفقات مجلس النواب الحالي والتي بلغت آفاقا غير مسبوقة كانت تكفي المجلسين معا إذا توفرت الإرادة.
وفي معرض مناقشة موضوع البرلمان ذي الغرفتين لا يفوتني أن أشير إلي أن تجربة مصر السابقة في هذا الإطار ليست غريبة أو غير معمول بها في ديمقراطيات عريقة في عالمنا, فجميعنا يعرف تماما البرلمان البريطاني ذي المجلسين: مجلس العموم ومجلس اللوردات, والكونجرس الأمريكي بمجلسيه: مجلس النواب ومجلس الشيوخ, حيث نتابع عن كثب الأدوار الفاعلة التي تلعبها الغرفة الثانية من كل منهما والسلطات التشريعية الممنوحة لهما في الحياة السياسية لضمان دور صمام الأمان وليس لافتعال ديكور تشريعي أو تبديد نفقات!!!
ولمن لا يدرك المغزي العميق لمجلس الشوري في الحياة البرلمانية المصرية دعوني أسوق النقاط الآتية:
** إذا كانت معايير التمثيل الشعبي بالنسبة لتوزيع السكان عبر محافظات مصر وشروط النسبية وتكافؤ العدد قد أتت ببرلمان ذي مجلس نواب يضم نحو ستمائة نائب -وهو رقم ضخم بجميع المقاييس- يتصارعون ويتلاطمون في غياب تكتلات سياسية أو حزبية تنظمهم كما استعرضت في مقالي السابق, وفي ظل اقتصار سلطة رئيس الجمهورية علي تطعيمهم بكوادر علمية وفكرية علي نسبة 5% من الالعدد المنتخب وهي نسبة تذوب ويضيع تأثيرها وسط هدير الأغلبية المنتخبة, سوف نجد أن السيطرة والكلمة الأخيرة حتما ستكون لتلك الأغلبية التي إنما اكتسبت العضوية بفضل الثقل الانتخابي الراجع إلي العشائرية والقبلية وزعامة العائلات وتراجع الدور الحزبي… وهنا تبرز الحاجة الماسة إلي خلق كيان مختلف في مجلس الشوري ليتكون من عدد لا يتجاوز 20 أو 25 في المائة من عدد أعضاء مجلس النواب ويؤم في عضويته شخصيات عامة لها ثقلها العلمي والأدبي والفكري مثل رؤساء الهيئات القضائية والجامعات ومراكز الدراسة والبحث والنقابات ورموز الفكر والثقافة والإعلام… وغيرهم ممن يشكلون زخما فكريا يحتاجه العمل التشريعي والسياسي لكن لا قبل لهم بالعملية الانتخابية… هؤلاء يتم ترسيخ المعايير التي تأتي بهم إلي مجلس الشوري بعيدا عن صندوق الانتخاب.
** يتولي مجلس الشوري دراسة ومناقشة مشروعات القوانين بالتوازي مع مجلس النواب, حتي إذا ما تم إحالة هذه المشروعات إليه بعد فراغ مجلس النواب من صياغتها يتم تقييمها التقييم الجاد الواعي الدارس, فإذا وجدت محققة جميع الجوانب التشريعية المرجوة يتم اعتمادها وإعادتها إلي مجلس النواب لاتخاذ إجراءات إصدارها كقوانين… أما إذا تبين لمجلس الشوري وجود أي قصور بها- وهذا هو دور صمام الأمان التشريعي- يتم تسجيل الملاحظات الواجب إدخالها عليها وإعادتها إلي مجلس النواب لإدراكها قبل اعتمادها وإصدارها.
** بينما يمكن الاقتصار علي الدور التشريعي لمجلس الشوري, يمكن أيضا النظر في إعطائه دور صمام أمان رقابي علي السلطة التنفيذية ليدعم عمل مجلس النواب في ممارسة الرقابة علي السلطة التنفيذية لضمان ألا تخرج هذه الرقابة عن نطاق السيطرة وتنزلق نحو مغامرات حزبية تحركها حسابات المنافسات السياسية.
*** إنني إذ أتناول قضية مجلس الشوري في هذا المقال أدرك تماما أن هذا الهدف لا يتيحه دستورنا الحالي الذي تجاوزه, وإذ أظل منحازا لمبدأ البرلمان ذي الغرفتين أعرف أن ذلك أمر يجب أن ينتظر يوم أن يقرر الشعب المصري فتح الدستور لتعديله ووقتها سوف تسنح الفرصة لطرح القضية مجددا.