الحضارة سلوك وكلمة(Civilization) جاءت كلمة(civility) أى رقة التعامل بين البشر، فكلما كان الإنسان متحضرا كلما كان رقيقاً محباً للآخرين عطوفاً عليهم، بمديد المساعدة إليهم، مجرد أن تقدم له خدمة- ولو صغيرة- يقول لك: شكراً، وإذا احتاج منك شيئا ًيسبق إحتياجه بكلمةمن فضلك هذه هي الحضارة ، سلوك ناعم انساني بين الإنسان وأخيه الإنسان، احترام للآخر ورآيه وحياته، حب له ولهفةعلى خدمته، أليس الآخر هو أنا بالنسبة له، وعندما أحبه وأسارع إلى نجدته وخدمته لو إحتاج إلىّ إلا خدمة ومساعدة لنفسى؟
مصر أم الحضارة، وليس هذا مبالغة أو مجرد كلام فى الهواء، بل أن التاريخ القديم هو الذى يثبت ذلك، فأجدادنا القدماء عرفوا الأخلاق، ورقة التعامل بينهم منذ آلاف السنوات، وهذا كتاب الموتى يسرد ويذكر لنا كيف كانوا يعيشوا ويتعاملوا بغاية الرقة والحب والتعاون.
يذكر المؤرخ المصرى(مانيتون) قصة الحكيم آنى عندما وقف أمام محكمة أوزوريس، حيث كان جالسا ووراءه 42 قاضياً وتحوت إله الحكمة يرقب الميزان، وريشة العدالة فى كفة، وقلب الحكيم آنى فى الكفة الآخرى، وبدأ آنى يصلى قائلا: لا تشهد ضدى ياقلبى.. وبدأت أسئلة القضاة ومنها:
هل حافظت على جسدك طاهراً؟
هل امتدت يدك إلى ماليس لك؟
هل قتلت؟ هل كذبت؟ هل عذبت حيواناً؟
هل نسيت أن تسقى نباتاً؟ هل شهدت بالزور؟
هل كنت سبباً فى دموع إنسان؟ هل سلبت حرية أحد؟
هل تنكرت لجارك؟ هل تملكك الغرور؟.
أليست هذه الأسئلة كلها تنم عن إنسان متحضر بمعنى الكلمة؟ ثم بعد أن أجاب الحكيم آنى تقدم قائلا: أيها الإله العظيم.. كنت عينا للأعمى.. يداً للمشلول.. رجلا للكسيح.. أبا لليتيم.. لم ألوث ماء النيل.. لم أحلف كذباً.. لم أغش فى الميزان.. لم أتلف أرضا ًمزروعة.. أن قلبى نقى ويداى طاهرتان.
بعد هذه المحاكمة أعلن تحوت إله الحكمة أن قلب آنى صافى وأعماله أرضت الإله، ثم قال الإله الأعظم: ان روح آنى قد سجلت ولادتها فى عالم الخلود، وطلب منه الجلوس عن يمينه.
هذه المحاكمة منذ آلاف السنوات إنما تدل فعلا عن أن مصر هى أم الحضارة، الحضارة التى هى سلوك إنسانى متقدم، تحترم الإنسان فى كل زمان ومكان، الحضارة التى تحترم الحياة كلها، سواء حياة الإنسان أو الحيوان أو النبات، وهل بعد هذه التعاليم والوصايا تعاليم ووصايا أخرى؟!
لقد كان المؤرخ الأمريكى هنرى برستيد الذى عاش فى مصر وكتب كتابا عن حضارة مصر القديمة، وعندما بحث عن عنوان له لم يجد عنواناً مناسباً إلا: فجر الضمير:
فمصر هى التى فجرت الضمير الإنسانى، وما الضمير إلا الحارس الحقيقى للآخلاق، والحضارة- كما نقول_ هى سلوك وأخلاق.
وتمر السنون والأيام والعصور، والمفروض أن تتقدم الأمم وتزداد حضارة مع تقدم الزمن، لكن ماحدث مع المصريين كان العكس تماما، مصر أم الدنيا والحضارة والأخلاق تفقد مزاياها وحضارتها وأخلاقها، فتسمع عن الإبن الذى يقتل أباه، والأم التى تقتل زوجها وأولادها، والزوج الذى يقتل أبناءه، والأب الذى يمارس المحارم مع إبنته.. والتلاميذ الذين يضربون أستاذهم، ويمدونه على قدمه، كما كان يفعل المدرسون فى الزمن السابق، وكان المدرسون يفعلون ذلك من أجل تربية الأبناء وبناء جيل متعلم مهذب.
ضاع كل شئ، وضاعت الأخلاق والحضارة! وأصبحنا كالحيوانات نضرب ونقاتل بعضنا! هذا غير الشتائم القبيحة والألفاظ الفجة وسب الدين والكلمات الجنسية القاسية، لا يشعر الشباب بل- للأسف- الأطفال، بمعنى الكلمات والشتائم التى نشعر نحن الجيل القديم الرائد برعشة وصدمة ومصيبة عندما نسمعها.
فى مأساة حقيقية تعانى منها أم الدنيا والأخلاق مصر! قضية يجب أن تهتم بها دور التعليم والعبادة والتربية ومراكز السلوك الإنسانى والأخلاق، السؤال الذى يفرض نفسه علينا هو: كيف نعيد لمصر وجهها الحضارى العريق القديم لتعود مصر أم الدنيا وأصل الحضارة؟!
كاتب هذه السطور ليس متشائماً وإنما أنا متفائل جدا بشعبنا وشبابنا وقيمنا التى هى موجودة فعلاً، وإذا كنا قد نسيناها فترة إلا أنه من الواجب وسرعان ما نستعيدها، المهم أن نحاول وأن نبدأ، البداية الحقيقية فى البيت بين أحضان الأسرة ثم فى دور الحضانة والمدرسة والجامعة والنادى والكنيسة والمسجد، والإعلام بشتى وسائله.
المشوار طويل، لكن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة الآن وليس غداً..