أن النضوج هو حالة الخروج من الطفولة (الإعتماد الكلي على الآخرين) ومن المراهقة (التمرد، والأنانية، والإنغلاق على الذات، والأحلام…) إلى حالة الإتزان والتحكم في أخذ القرارات بفطنة وحكمة وتفكير، وتحمل مسؤولية هذه القرارات.
يكمن النضج هنا في القدرة على تكوين تفكير شخصي، مستقل، مقرون بالاحترام لاراء الآخرين. ويتميز أيضاً في القدرة على إتخاذ القرارات الخاصة، باستقلالية وحزم، مع احترام الوقائع وأراءالآخرين. والشخص الذي يتحلى بالنضج يبقى على استعداد أن يغير في رأيه، ويبدل في مخططاته، إذا ما بدا له ذلك حكيماً في ضوء معطيات جديدة ومهمة. له تفكيره الشخصي، وقراراته المستقلة وهو يتحمل مسؤوليتها. وهو دائماً على استعداد لتحمل المسؤولية والإقرار بالحقيقة ولو كانت مؤلمة. وهو جَدي مُتطلب من ذاته. المشاكل لا تقلقه بقدر ما تدفع به إلى تحليلها واستعراض الخيارات واتخاذ القرار وتنفيذه والإلتزام بكل ما ينتج عن ذلك وهذا ما يُدعي بالنضج العقلي.
ويتميز النضج ، أول ما يتميز، بالقدرة على الإنفتاح على الآخرين والإتصال بهم، وخلق علاقات صادقة وعميقة معهم. فالإنسان الناضج اجتماعياً يعرف كيف يخلق توازناً بين الإتكالية والعدائية في العلاقة مع عائلته وأصدقائه والمحيطين. يحاول أن يتعايش مع متطلبات المجتمع، ولا يتردد في التعاطي بإيجابية مع متطلبات جماعته الجديدة وتطلعاتها. إنه يرى في العمل فائدة ولذة، ويعرف كيف يتخطى ما هو ممل فيه وهذا ما يدعي بالنضوج الاجتماعي.
وأخيراً يتميز النضج بقدرة الإنسان على تقبل عواطفه والسيطرة عليها. فالشخص الذي يتمتع بهذا النضج يستطيع أن يتخطى أوضاعاً عاطفية صعبة، من دون أن يتعثر. وهو يعرف كيف يتعامل مع ذلك الواقع بموضوعية، إنه يعبّر عما يقلقه عوضاً عن أن يغضب في قلبه. ويتقبل الإنتقاد بهدوء وصفاء، يواجه الأمور الصعبة ولا يتهرب من القيام بما قد يزعج. وهو أخيراً متحرر من القلق والصبيانية إنه النضج العاطفي ..
ومن هنا يُعتبر ناضجاً هذا الشخص الذي يَحمل مسؤولية مجمل حياته، بحيث يبدو وجوده كُلاً مترابطاً مع كل وقت وكل حدث، لأن الإستقرار الذي توفره له قناعاته، هو يعطيه القدرة على البقاء أميناً لتوجهاته الكبرى التي تُعطي مغزى لحياته.فيعرف أن يَشغلَ وظيفته في المجتمع، لأنه يعرف معنى حياته بالنسبة إلى باقي البشر. ولذا قد أكد تبعيته للمجتمع من خلال طرق تضامنه المختلفة؛ وهو لا يَدور حول ذاته، بل إنه منفتح على الأشخاص والقضايا التي يعيش في وسطها، بنوع مسؤول وعملي؛ إنه يعمل على مستوى التكيف العام، لا بل على مستوى الأحداث الفردية والمنعزلة.
فعملية النضوج عملية مستمرة، فقد تمر، ككل مسيرة بفترات من الركود أو الإنكفاء. في كل منا تناقضات تتجاذبه في نفسه. فهناك ما يدفع بنا نحو النمو، وهنالك ما يشد بنا إلى الوراء. فالشعور مثلاً بأن متطلبات الحياة أخذت تتخطى قدرتنا على العطاء، يدفع بنا إلى المحاولة، بأعصاب مضطربة، إلى تخطى واقع تتجاذبنا فيه خشية من صعوبة المسؤولية الجديدة وخوف من تجربة التقهقر والفشل.فنتعرض للركود الذي هوعبارة عن توقف في النمو العاطفي. وهو يعود في الغالب إلى نوع من العلاقة المبنية على الإفراط في الإتكالية أو المبالغة في الحماية، فيصبح الآخر، في كلا الحالتين، مصدر التفكير والقرار.
كما يشكل الإنكفاء عودة إلى مستوى أدنى من التطور؛ إنه تراجع نحو الماضي :”دعني أرجع طفلاً ولو لزمن”. فمن الأمثال التي تصور عملية الإنكفاء هذه بوضوح، مثل من يسمى بالشخص “البالغ” الذي يشعر بنشوة خاصة في كل تجمع يعود به إلى أجواء الطفولة، كتجمع أبناء فصله الدارسي مثلاً، فيعود هكذا إلى العيش في أجواء الطفولة.
الإنكفاء في الغالب عودة إلى أحدى نقاط الركود. فذلك مثل الفتاة التي كانت دائماً محط إهتمام أهلها الفائق، والتي تسرع عائدة إليهم كلما ظهرت في حياتها الزوجية صعوبة. إنها تحاول العودة إلى نقطة الركود التي أختبرتها عندما كانت محط أنظار أهلها ومجال حبهم. هي ترفض أن تكبر، كما تأبى أن تقبل التحدي الذي يتمثل في كونها قد أصبحت زوجة وأما… إنه التردد في إعتناق مسؤوليات جديدة.
أن مسيرة النضج رهن بطريقة تعاملنا مع المصاعب والتحديات. فالإنسان غير الناضج لا يرى إلا المصاعب: إنها تصدم بصره فيتعذر عليه تخطيها، وأهم من ذلك، إنه يحجم عن التبصر في موقفه منها.
المصاعب تمر ولكن موقفنا منها يبقى. مواقفنا من المصاعب محفورة في نفوسنا وأجسادنا. فكل رد فعل، مهما كانت درجة نضجه، يتفاعل ليكون بداية عادة جديدة فينا. ومن خلال المواقف وردود الفعل الناضجة نتمرس على النضج الذي يحدد كياننا. وكذلك المواقف المتتالية التي تفتقر إلى النضج. فهي بدورها تلقي بذورها في أرضنا.
فعلى الشخص الذي يصبو نحو النضوج عليه أن يقبل ذاته دائماً كإنسان في سفر، ويعي أنه لا بد للمسافر من أن يعرف بعض الفشل أو على الأقل بعض التخبط. ومن الضروري أن تخضع الٌمثل دائماً لامتحان الخبرة. وهكذا، فمُثلنا التي تبدو لنا في الغالب جميلة جداً، سرعان ما تتحول إلى صراع، إلى نكران للذات، إلى معركة لضبط النفس، إلى إرادة البدء من جديد على أثر فشل وإلى قبول واع لسرالفشل.
فالمشكلة في العمق لا تكمن في حادث طارق ظرفي، بل في رد الفعل عندنا على هذا الفشل. أن رد فعل الإنسان الناضج يجب أن يأتي دائماً محصناً بثقة عميقة، مبنية على قناعة راسخة بأن الله يقف دائماً إلى جانبه. وأن حب الله أقوى من أي ضعف عند الإنسان. ولا بد لمسيرة النضج من أن تصطدم ببعض العقبات، وتتعرض لبعض الكبوات. ولكن الفشل الوحيد الحقيقي يكمن في الإنهزام.