يحمل زمننا الحالي في طياته الكثير من العلامات الغنية والتي يجب علينا أن نحلّلَها، وتحتل الصلاة مرتبة خاصة في هذهالعلامات. وتبدو الصلاة حاجة ملحة تتزايد مع ازدياد العودة إلى حياة أكثر روحانية في عالم تسوده التكنولوجيا، وهي تشكّل في نفس الوقت صعوبة لأنها لا تكتمل بشكل نهائي، وتحتاج إلى جهد وعناية مستمرّين. تبرز أهمية الصلاة من منطلق أن الحياةَ لا يمكن أن تقتصر على العمل والأنتاج. من هنا فالصلاة هي التعبير الأكثر نضوجاً عن الإيمان: فهي تُظهِر الثقة بشخصٍ تربطُنا به علاقة حميمة. وكلّما شعرنا بأهمية الصلاة في حياة إيماننا، كلّما اختبرنا صعوبة الصلاة: فنحن نعيش في داخِلنا صراعاً بين رغبتنا الصادقة في الصلاة وصعوبة ممارسة الصلاة. تتأتى المشكلة الأولى من عدم توفّر الوقت أو الجو المناسب للصلاة. فقد أصبح نظامُ الحياةِ متسارعاً جداً، ولا يساعد على التفكير ولا على الصمت. نعيش نوعاً من عبادة صنم الوقت، وهذا أمر يزيد في حاجتنا الصلاة. من يصلّي يبرهن أنه سيدُ وقتهِ. أصبح تفريغ الذات من الالتزامات علامة على التحرر من طغيان الوقت.
المشكلة الثانية عصرية وتتمثل في ثقافة “الأنتاج” التي تهيمنُ على عالمِنا. فما يستحقّ أن نضحيَ وأن نتعبَ من أجله هو ما يعطينا نتيجة آنية محسوسة. وما لا يُنتِج لا يستحقُ التعب ولا الجهد. وهنا تجد الصلاة صعوبة في تأكيد ضروريتها لأنها لا تنتمي إلى عالم النتائج الآنية الملموسة. فهي تنتمي إلى عالم المجانية الذي لا يُرى والذي يجب فقط أن يُعاش. فنحن عندما نصلي نعتقد إننا نهدر الوقت، بينما الصلاة هي إعطاء الوقت الكافي لأنفسنا، ولإقامة حوار مع الله، الذي بدونه يصبح العالم بدون معنى. مشكلة آخرى عصرية نعاني منها، والتي هي نتيجة عقلية عالم اليوم، هي التركيز الزائد على الذاتيّة. فنحن مهتمّون بمشاكلُنا وبالرغبة في إظهار قدرتنا إلى حدّ يمنعنا من التفكير في عمل حوار حقيقي، وفي المشاركة البسيطة والمجانية بين الأشخاص. فعندما يصلّي إنسان اليوم، نراه يركّز على قدراته وعلى مشاكله وعلى صراعاته الداخلية، بحيث تصبح صلاته إنغلاقاً على ذاته، ويحرم نفسه من أي استعداد لاستقبال ما يأتي من الآخر (الله)، ولسماع ما يريد أن يقولَه له أو لقبول ما يرغب في إعطائهِ. نستنتج أن الصلاة جهادٌ حتى مع أنفسِنا، فنحن نميل إلى العمل الخارجي أكثر من الأستسلام إلى الصلاة. ذلك أن أي نشاط يُثبت وجود الذات، بينما الصلاة هي اعتراف بوجود الله وانتظاره وقبوله.
صفة أخرى من صفات عالمنا اليوم يمكن أن تعيق خبرة الصلاة ، هي التفكير أن الصلاة هي عبارة عن مسكّن لتهدئة الضمير وتخفيف حدّة الأزمات التي نعيشها. وهكذا تصبح الصلاة لحظة عدم ألتزام وتعطيل للعمل. لا ننكر أن الصلاة معرضة لهذا النوع من المجازفة، ولكن يجب القول أننا أن فهمنا جيداً معنى الصلاة، فإنها تشكل طاقة ثورة كبيرة. ولأن الصلاة تقدّم أسلوب حياةٍ يعاكسُ الأسلوبَ الذي نعيشُهُ، فهي تشكّل تحدّيا ورفضا لعقلية الانتاج والكسب السائدة في عالمنا الحالي.على الرغم من الصعوبات والشكوك التي اثرناها، علينا أن نكتشف الصلاة في معناها العميق. فهي تجيب على حاجةٍ عميقةٍ في الإنسان: ففي كل الأديان يوجد تعبير عن علاقة الإنسان المعاشة مع الله، بالرغم من اختلاف الطريقة والأسلوب.سنتطرق الآن إلى بعض المظاهر الأساسية التي تميّزالصلاة في معناها العميق:الصلاة هي بالدرجة الأولى توسل واستدعاء، فنحن أمام الآخر ونتكلم معه بصيغة ال (أنت): الآخر المطلق الذي هو الله. نجد في هذه الأنت الإلهية القرب والتبادلية. فمع الله، من الممكن أن ندخل في حوار، لكن، ولكون الله مطلقاً، يبقى حواراً لا يمكن التحكّم به أو لمسه. الصلاة دخول في هذه الذات المطلقة، والشعورَ بقربها منّا، مع العلم أنها تختلف عنّا، وبالتالي غير قابلة للسيطرة، ولا للدخول في حدود آفاقنا. كل هذا يجعل من الصلاةِ مغامرةً شيقة تمتاز بالفرح والسلام، ولكنها لا تخلوا من المخافة والرهبة.
من ثمَّ فالصلاةُ هي البحث عن المعنى الذي تعطيه الصلاة لحياتنا. هي البحث عن الكمال وعن تحقيق الذات الذي نعلم جيداً أننا غير قادرين على تحقيقه وحدنا. فنحن، أضافة إلى ذلك، نعيش في عالمٍ يُسيطر عليه الظلم وغياب السلام، عالم يُعرّضُنا باستمرار إلى الألم والأحباط، والخوف من الموتُ في أي لحظة. ونحن في الصلاة نبحث عن معنى للحياة، وهذا شعورٌ لا نملكه بشكلٍ كامل، لكننا نؤمن ونأمل بقوّة أننا سننال هذه النعمة من الله.أخيراً، وبسبب وجود الله معنا، تصبح الصلاة دعاءً للحصول على القوة اللازمة لتغيير حياتنا والعالم إلى ما يريده الله، حتى أن ما نطلبه من الله بتضرّع وتوسّل يُزهر في العالم من خلال استعدادنا لقبول نعمة الله والعمل بقوّتها. ليست الصلاة اذاً هروباً من الحياة، بل إعتراف بمفهوم جديد يحملنا إلى قمّة الإلتزام بالعمل.فالصلاة اذاً هي استدعاء حضور الله، وهي استقبال كل المعاني التي يهبنا أياها، واستثمار كل مواهبنا لتحقيق ذلك.