نحن نولد في عالم واسع الأرجاء، تتلاطم أمواجه، وتتباعد شطئانه، وتتشعب بحوره. ونحن نحاول أن ندخله، محمولين على “عوامات” من العزيمة، والإصرار، والثقة بالنفس.
ومن البديهي إننا ونحن نصارع أمواج الحياة، فأنها تلطمنا تارة فتقهرنا، ثم نضربها نحن بأيدينا تارة آخرى، ونعلو فوقها؛ فنحقق انتصارات قليلة، لكننا سرعان ما نكتشف أن أيدينا قصيرة، وأنفاسنا لاهثة، وإننا لا نستطيع أن نعبر بحر الحياة بقوتنا المجردة، بل نحتاج إلى قوة، تحملنا وتعبر بنا إلى شاطيء الأبدية البعيد.
هذه القوة ليست بالقطع قوة شركائنا الغرقى في هموم الحياة، الذين يواجهون نفس مصائرنا، وليست قوتنا القاصرة التي تتضائل أمام جبروت البحر الهائج، لكنها القوة العلوية القادرة على إنقاذنا، والتي تسهر علينا، وتتابع حركاتنا، وتراقب اندفاعاتنا وراء شهواتنا، وجنوحنا وراء رغباتنا، ثم تسرع لنجدتنا في الوقت المناسب.
فإن الله يراقب الإنسان وهو يتخبط في بحور الشر، يستمتع بها، ويتعذب فيها، يعشقها فيندفع إليها، ويملّها، فلا يستطيع الهروب من بين مخالبها. ويظل الله يراقب الإنسان الشارد وهو يمارس حريته.
وحين يدرك المرء خطورة مصيره، فإنه يسعى جاهداً لانقاذ نفسه، فيضرب الماء بسواعد واهنة، ويقفز فوق الأمواج بجسد مثقل، فلا يستطيع الخلاص؛ فقد أصبح البحر في داخله، وامتلأ جوفه من مائه الثقيل.
وحين تخمد محاولات الإنسان الفاشلة في إنقاذ نفسه من ثقل خطاياه، حينئذ يتدخل الله لإنقاذه، وانتشاله وخلاصه من الموت المحقق.
أن فشل الإنسان هذا فشل محسوب، وهو نوع من الإخفاق الضروري الذي يبصّره بحقيقة ضعفه وعجزه، وحاجته الشاملة لله. واعتراف الإنسان بعجزه وفشله هو السلم الذي يصعد عليه إلى غايته. وهي نوال الغفران الإلهي.
يظن الكثيرون أنهم قادرون على إرضاء الله باعمالهم الخارجية، وتحقيق نوع من السلوك الروحي الجاف، الذي يؤهلهم للقبول عندالله.وهذا الظن يعكس جهلاً بحقيقتين روحيتين، آحدهما تتعلق بطبيعة الإنسان، والآخرى بطبيعة الله.
فالإنسان بطبيعته الأرضية، منجذب إلى الشر ميال إليه، غير قادر على هجره، وارتباطه به مثل ارتباطه بجسده، لا يقدر أن يخرج منه ولو كان كارهاً له. ولذلك فإنه حين يحاول إرضاء الله بقوته وملكته الحسية فهو كمن يظن إنه قادر على اعتلاء الجو كسائر الطيور مع إنه لا يملك الجناح. لذلك يفشل الإنسان وهو يحاول فقط شراء رضى الله باعماله أو تدينيه أو سلوكه أو مُثله العليا أو تضحياته.
أما الحقيقة الآخرى فهي قداسة الله، التي تحترق أمامها كل الأعمال المادية، والعبادات الشكلية. فالله روح، أما أعمال البشر فهي مادية شكلية محدودة في قوالب بشرية عاجزة.
والإنسان لا يكف عن محاولاته الفاشلة، ولكنه حين يخلو إلى ذاته، ويصارح نفسه بحقيقة نفسه، يعلم إنه ترابي عاجز. وإنه في أفضل درجات تدينه مجرد إنسان ساقط غارق في بحور الشر، بعيد عن شاطيء الأمان.
وعندما يعلم الغريق إنه لا فائدة من محاولاته لإنقاذ نفسه، ويعترف بأنه مائت لامحالة، حينئذ تمتد يد الله إليه لتفتدي نفسه لا على اساس استحقاقه للغفران والنجاة، بل على أساس روحي، هو رحمة الله المجانية التي يعطيها لمن يلجأ معترفاً بعدم استحقاقه، والذي يتخلى عن احساسه ببره الشخصي، ويطلب تبرير الله المجاني.
وعند هذه المرحلة الحاسمة في حياة كل إنسان.. يكشف الله الظلمة عن عينيه ويعلن له سر الخلاص الإلهي، ليختبر قوة روح الله القدوس الذي يقدس الحياة، ويغير الطبيعة البشرية العاجزة. ويرتفع بالإنسان الساقط من هوة الخطيئة إلى أجواء الروح الطاهرة التي تعرف لغة السماء. وتقدر أن تبني علاقة مع الله، على أسس سمائية مقدسة.
وحين تشرق شمس اليقين في داخل الإنسان الساقط الفاشل، فإنه يدرك إنه قد مارس أحلى أنواع الفشل الذي يقود إلى النجاح.