قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (646)
أتابع بشغف التطورات السياسية التي تجري في إنجلترا منذ ما يزيد علي عام حول الخروج الإنجليزي من الاتحاد الأوروبي والذي اكتسب مصطلح البريكست في قاموس السياسة… وهو الوضع الذي تفجر علي غير المتوقع وعلي عكس ما خطط له ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق الذي كان مؤيدا بقوة لبقاء بلاده ضمن المجموعة الأوروبية لكنه أقدم علي مغامرة استفتاء مواطنيه حول البقاء أو الخروج لمجرد تعزيز موقفه التفاوضي مع دول المجموعة, فإذا بنتيجة الاستفتاء تصدمه -وتصدم العالم- حيث انحاز البريطانيون بأغلبية 52% لقرار الخروج من المجموعة… وبدلا من ذهاب ديفيد كاميرون للضغط علي المجموعة الأوروبية للحصول علي شروط أفضل نظير بقاء بريطانيا إذ به يجد نفسه مضطرا إلي الاستقالة من منصبه وإنهاء مستقبله السياسي وتصريحه بأن إرادة الناخب البريطاني يجب أن تحترم وتنفذ لكنه لن يكون ربان السفينة الذي يقودها في هذا الاتجاه- اتجاه البريكست.
صحيح أن المعايير الديمقراطية -خاصة في معقل عريق لها مثل بريطانيا- تلزم بالانصياع للأغلبية حتي لو كانت تتجاوز النصف بقدر يسير, لكن كانت هناك شواهد مهمة تنبئ بأن ديفيد كاميرون أقدم علي مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب أودت بمستقبله السياسي وأدخلت بلاده في سلسلة من التداعيات حتي يومنا هذا… ويكفي أن أذكر تعليق توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق علي نتيجة الاستفتاء آنذاك حين قال: لقد كان تصويتا احتجاجيا أكثر من تصويت لتقرير المصير… في إشارة إلي أن الأغلبية التي صوتت للخروج من المجموعة الأوروبية كانت تعبر عن ضيقها وقلقها واحتجاجها من اجتياح اللاجئين لدول المجموعة والضغوط الواقعة علي بريطانيا لقبول نصيبها من الكوتة لتوزيعهم وإيوائهم علي أراضيها وهو الأمر الذي كان يمثل تهديدات جمة للبريطانيين من حيث سوق العمل علاوة علي مخاوف تسلل المتطرفين والإرهابيين ضمن صفوف اللاجئين. لكن في مقابل ذلك لم تع تلك الأغلبية النتائج الكارثية التي تحيق ببريطانيا من جراء البريكست ودوامات الانقسامات والصراعات الداخلية التي سوف تتعرض لها.
وقبل الخوض في أهم مظاهر الانقسامات وهو ما يدور حاليا حول مزاج مفاوضات الخروج وهل تكون خشنة عسيرة أو ناعمة يسيرة لم يكن ممكنا غض البصر عن الآثار الجانبية لتحليل نتائج الاستفتاء الكارثي والتي كانت لها تداعيات سلبية علي البريطانيين أنفسهم… فقد أظهرت نتائج الاستفتاء انقساما جغرافيا بين الناخبين ففي حين صوتت الأغلبية في صالح الخروج في إنجلترا وفي ويلز جاء تصويت الأغلبية في صالح البقاء في سكوتلندة وفي أيرلندة الشمالية الأمر الذي أطلق مخاوف من ظهور نزعات انفصالية داخل المملكة المتحدة تبعا لذلك… كما أن النتائج أظهرت أن التصويت للخروج تركز بين المراحل العمرية المتقدمة في مقابل انحياز الشباب للبقاء وهو ما أثار موجات احتجاجية غاضبة إزاء تحكم الكبار في رسم مستقبل لا يرضي عنه الشباب وحتما سوف يرثون نتائجه.
ونعود إلي ما أسفر عنه الاستفتاء الكارثي من انتقال القيادة السياسية من ديفيد كاميرون إلي السيدة القوية تيريزا ماي التي كانت تشغل منصب وزير الداخلية في وزارته… وجاءت ماي إلي السلطة تسبقها شهرة قوية وسمعة رنانة بأنها طراز متكرر لمرجريت ثاتشر المرأة الحديدية التي حكمت بريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي وأبلت بلاء حسنا.
لكن بالرغم من قوة تيريزا ماي وإعلانها أنها إنما جاءت للسلطة لتنفيذ إرادة الشعب البريطاني في الطلاق من أوروبا وأنها مزمعة أن تجعل هذا الطلاق حاسما وخشنا وقويا, إلا أن الغرور السياسي تملكها وأقدمت هي الأخري علي مقامرة سياسية بالدعوة إلي انتخابات عامة مبكرة لتعزيز قوتها في البرلمان والحصول علي تأييد شعبي لسياسة الخروج الخشن التي تنوي اتباعها في المفاوضات مع المجموعة الأوروبية… فكانت الضربة القاضية التي وجهها لها الشعب البريطاني عندما خرجت من الانتخابات بأغلبية برلمانية هشة تقل كثيرا عما كان يستحوذ عليه حزبها -حزب المحافظين- قبل الانتخابات.
وبدلا من أن تخرج تيريزا ماي منتصرة قوية حاصلة علي صك شعبي باعتماد سياستها إزاء البريكست, خرجت منكسرة ذليلة تبحث عن فرقاء تستمد بهم أغلبية برلمانية مطمئنة تنقذها من السقوط, وبالتالي كان عليها أن تتخلي عن غرورها وعنادها وتضطر لتقديم التضحيات وقبول الحلول الوسط والانتقال من التمسك بمسار الخروج الخشن إلي مهادنة تيارات الخروج الناعم.
لكن لم ينته المطاف عند ذلك الحد, فبريطانيا الآن بالرغم من انخراطها في مسار مفاوضات الخروج تشهد موجات من الصراعات والتيارات السياسية التي لا تتردد في التعبير عن أسفها -بل ندمها- علي الطلاق من أوروبا, وتتحدث عن سيناريوهات عديدة وسطية لإنجاز هذا الخروج شكلا -احتراما لإرادة الشعب- مع امتصاصه مضمونا بالحفاظ علي اتفاقيات المزايا الجمركية والتجارية واتفاقيات حرية حركة المواطنين داخل المجموعة الأوروبية ومناخ الاحتفاظ بالشركات متعددة الجنسيات وخلافه من كافة أشكال ارتباط بريطانيا بأوروبا تحت مسمي الخروج الناعم اليسير.
أما ما نشر مؤخرا واعتبرته أنا بمثابة تراجع واعتذار البريطانيين عن ذلك الاستفتاء الكارثي هو ما صرح به عمدة لندن صادق خان الذي ينتمي إلي حزب العمال من أنه لا يستبعد صعود تيار داخل حزب العمال البريطاني يتزعم سياسة البقاء داخل المجموعة الأوروبية ويضع تلك السياسة علي برنامجه الانتخابي ويدعو لانتخابات مبكرة, حتي إذا فاز فيها العمال, يحق لهم إعادة الاستفتاء مرة أخري حول الخروج أو البقاء… ويؤكد عمدة لندن أنه في ذلك لا يتنكر لإرادة الشعب التي أظهرها الاستفتاء السابق, لكنه يسلك المسار الديمقراطي الذي قد يصحح نتائج الاستفتاء الكارثي!!