قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (627)
لا أحد يستطيع العبث بقوانين السوق وعلي رأسها القانون الأزلي للعرض والطلب, فمقياس العرض والطلب هو المقياس الحقيقي الذي لا يكذب ولا يخدع في تقييم أحوال السوق بالنسبة لأي سلعة أو منتج… لذلك عندما نتحدث عن غلاء الأسعار لا يقتصر الأمر علي الشكوي من معاناة المواطنين والصراخ من جشع التجار ومطالبة الحكومة بمراقبة وضبط السوق, فذلك غير كاف وغير مجد وأقصي ما تستطيعه الحكومة هو نشر قوائم الأسعار الاسترشادية للسلع ليعرفها المواطنون ويحزموا أمرهم في الإقبال علي السلعة أو الإعراض عنها.
هذا الكلام يبدو أنه صعب التطبيق فيما يخص الاحتياجات الأساسية التي لا غني عنها للمواطنين مثل المواد الغذائية والأدوية, لذلك لا تملك الحكومة حرية ترك السوق لقانون العرض والطلب حتي تصحح نفسهابشكل طبيعي إنما تتخذ من الإجراءات ما يضمن تلبية احتياجات المواطنين وكبح جماح جشع وانفلات التجار… أما فيما يخص السلع الكمالية التي يستطيع المواطن التمهل في شرائها فهنا تكون السيادة لقانون العرض والطلب… فالمعروف لطرفي العلاقة في تلك النوعية من السلع أنه إذا زاد الطلب علي العرض يمكن للتاجر أن يرفع سعر السلعة بينما إذا زاد العرض علي الطلب ينبغي علي التاجر أن يخفض سعر السلعة لترغيب المستهلك… هكذا يتولي قانون العرض والطلب تصحيح وضبط حالة السوق.
تلك عينها كانت حالة السوق المصرية بالنسبة لسائر أنواع السلع المعمرة عقب تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار في نوفمبر الماضي, حيث أدي انفلات سعر الدولار من نحو تسعة جنيهات إلي نحو عشرين جنيها -أي زيادة نسبتها 225%- إلي انفلات مماثل قفزته أسعار هذه السلع وعلي رأسها السيارات بجميع فئاتها وأنواعها علاوة علي السلع المعمرة وتشمل جميع الأجهزة الكهربائية المنزلية… وفي حالتنا هذه كانت الزيادة في الأسعار مبررة ومعروف سببها -صحيح أنه ثار جدل طويل يتهم التجار بالجشع لقيامهم بتطبيق زيادات فورية علي سلع سبق استيرادها قبل تحرير سعر الصرف, لكنها كانت مسألة وقت حتي حلت محل تلك السلع مثيلاتها التي تم استيرادها بالأسعار الجديدة- فماذا كان رد فعل المستهلك علي ذلك؟
كان من الطبيعي أن يعرض المستهلك تماما عن شراء السيارات والسلع المعمرة والأجهزة الكهربائية التي باتت بعيدة المنال تماما عن قدرته الشرائية, ودخلت السوق في حالة كساد بلغت حد الشلل في تصريف تلك السلع الأمر الذي انعكس بالضرر البالغ علي القائمين عليها والمستثمرين فيها والعاملين بها… ولم يعد أحد يعرف كيف السبيل إلي الخروج من المعضلة التي استحكمت حلقاتها, فالتاجر معذور في الأسعار الملتهبة التي يضعها علي السلعة والمستهلك يؤثر السلامة ويشعر بالعجز ويؤجل قرار الشراء لحين عودة الأسعار إلي الحدود السابقة التي تناسب مقدرته الشرائية.
حاول بعض التجار الخروج من حالة الكساد بمراجعة عناصر تسعير السلعة, فليست كل تلك العناصر مرتبطة بتحرير سعر الصرف بين الدولار والجنيه كما أنه في ظروف الكساد ومن أجل إعادة الحركة للسوق يتحتم علي التاجر مراجعة هامش ربحه لتخفيضه من أجل الخروج من الأزمة علي أن يتم تعويض ذلك عند استعادة السوق عافيتها وانتعاش الطلب أمام العرض… لكن معظم هذه المحاولات اصطدمت بعلاقة الدولار/ الجنيه ولم تنجح في تحقيق انفراجة حقيقية تعيد معدلات البيع إلي طبيعتها… وبات الأمل الأخير في استرخاء سعر صرف الدولار الذي ضرب أسعار السلع مرتين: مرة في السعر المباشر لها ومرة ثانية في قيمة الجمرك المفروضة عليها.
وجاء الخلاص من خلال تحقق توقعات الاقتصاد يين وصدق حساباتهم… فقد أعلنوا عند اتخاذ قرار تحرير سعر صرف الدولار أمام الجنيه في نوفمبر الماضي أن السوق سوف تشهد طفرة غير مسبوقة ترفع قيمة الدولار إلي معدلات مقلقة لكن مع نجاح البنوك في الاستحواذ علي سوق العملة وتلبيتها للطلب علي الدولار سيعود التوازن بين الدولار والجنيه- أي بين العرض والطلب- فتشهد السوق استرخاء ملحوظا في سعر الصرف وهو ما عايشناه بالفعل من انخفاض قيمة الدولار أمام الجنيه لتداعب هامش 15.75 جنيه مقابل الدولار… وذلك كان له تأثير مباشر علي سوق السيارات والسلع المعمرة والأجهزة الكهربائية علاوة علي انعكاسه علي تقدير الجمارك علي تلك السلع… وبالتالي تنفس التجار الصعداء وانطلقوا في سباق محموم للإعلان عن تخفيضات كبيرة ملموسة علي أسعارهم بغية استعادة المستهلك وتحريك السوق وضخ دماء جديدة تنعشها.
المتابع لكل تلك التطورات التي شهدتها السوق صعودا وهبوطا… كسادا ثم تحركا علي استحياء أملا في دوران العجلة وعودة الانتعاش, لن يفوته أن القانون الذي ساد وحرك الأمور لم يكن قرارا بالتسعيرة الجبرية فرضته السلطة, ولم يكن قانون عقوبات للتنكيل بالتجار الجشعين… إنما كان القانون الطبيعي الذي طالما حكم الأسواق وتولي ضبط وتصحيح حركتها… إنه قانون العرض والطلب.