قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (619)
وكأن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مصر ينقصه مزيد من القلاقل والارتباك والتشرذم, فيأتي علينا مشروع القانون الجديد لتنظيم العلاقة بين الملاك والمستأجرين في المباني القديمة -أو ما يعرف بعقود الإيجارات القديمة ثابتة القيمة وخالدة المدة!!!- وقبل أن أخوض فيما أخشاه من الهزات العنيفة التي ستتولد عن القانون الجديد دعوني أعترف أنه آن الأوان لوضع حد للغبن الشديد الذي حاق بملاك المباني القديمة منذ تم تجميد القيمة الإيجارية لوحداتها وتحصين عقود الإيجار بها ضد الإنهاء أو الفسخ في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي, أي منذ ما يزيد علي نصف قرن!!!.. وتلك ظاهرة تنفرد بها مصر عن سائر دول العالم التي تحمي الملكية الفردية وتترك قوي العرض والطلب تتحكم بشكل طبيعي في مقدرات السوق.
قرارات تجميد الإيجارات وديمومة العقود لم تكن تستند إلي أية حسابات اقتصادية أو رؤي واقعية لمقدرات الثروة العقارية في مصر ولا إلي المصلحة المشتركة لطرفي عقد الإيجار -مالك ومستأجر- بل كانت قرارات ثورية متسرعة بطشت بالملاك لحساب المستأجرون ولم تدرك فداحة النتائج المترتبة علي ذلك.. فبينما فرح المستأجرين بالمزايا السطحية لثبات الإيجارات والعقود, لم يدركوا أن العبث بمقدرات السوق واعتراض المسار الطبيعي لقوي العرض والطلب سرعان ما يؤدي إلي ظهور آليات ووسائل جديدة لتصحيح العبث وضبط المسار.. وكان ذلك أولا في لجوء الملاك إلي تقاضي مبالغ تعويضية مقابل تحرير عقد الإيجار عرفت بوصف الخلوات, ثم عندما تم تجريم الخلوات تحت زعم ردع الملاك (!!) أفرز السوق ظاهرة التمليك بدلا من الإيجار حيث سادت موجات من بناء العقارات وبيع وحداتها بدلا من عرضها للإيجار.. وهنا لم تستطع القرارات الثورية فرض قيم محددة للتمليك ووجد فيها الملاك ضالتهم المنشودة لاستعادة حقوقهم المهدرة.
وبعد فوات الأوان استيقظ المجتمع علي هول الكارثة.. فأسعار تمليك المساكن سواء كانت لغرض السكن أو لغير السكن استمرت في الصعود حتي فاقت كل المعايير العادلة -وكأن الملاك يعاقبون المشترين أو ينتقمون من قوانين الإيجارات فيهم!!- ثم جاءت الضربة القاضية التي عصفت بقيمة الثروة العقارية, فقد اختفي المالك القديم الذي كان يشيد مبني يمتلكه -سواء كان فردا يورث ملكه لأولاده أو شركة تستثمر في تنمية مواردها وأصولها- فكان ذلك المالك يهتم كل الاهتمام بجميع عناصر المبني تصميما وإنشاء وتشطيبا ويعني بمرافقه وصيانتها.. ذهبت هذه النوعية من الملاك ليحل محلها المالك المقاول -ولست أقصد إطلاقا الطعن في قيمة المقاولات أو قامتها- وهو المالك الوقتي للمبني والذي يشيده ليبيعه ويتركه لينتقل إلي تشييد مبني آخر ويبيعه.. وهلم جرا.. وصاحب تلك النوعية من الملاك تآكل الاهتمام بعناصر المبني وتدني مستويات ومواصفات الإنشاء والتشطيب والمرافق.. وانتهي الأمر إلي أن من فرحوا بالقرارات الثورية التي انحازت لهم كمستأجرين اكتشفوا الخدعة التاريخية الكبري التي وقعوا ضحيتها عندما أرادوا الحصول علي شقق أو مكاتب أو محلات لأولادهم فإذا بهم أمام سوق مسعورة وأسعار متوحشة ومبان مشكوك في عمرها الافتراضي!!.. وتبين لهم أن تدليلهم وإفسادهم بالقرارات الثورية علي حساب الملاك لم يستمر طويلا وبات عليهم أن يدفعوا الثمن في سوق تتولي تصحيح نفسها بكل قسوة.
لكن في الوقت نفسه بقي الملاك القدامي فريسة الظلم والقهر وإهدار الكرامة.. وتوزعوا بين شريحة استسلمت لذلك الواقع المهين والمذل واكتفت بترك العقار ملكها دون رعاية أو صيانة أو تجديد- ومن أين كان لها أن تفي بذلك وهي تقبض النذر اليسير من إيجارات عفي عليها الزمن ولا تسد حتي الحاجات الأساسية للمعيشة؟- وبين شريحة أخري احترفت مضايقة المستأجرين وعقابهم بغية التخلص منهم وتغيير واقع الغبن الذي ارتضوه واستمرأوه تجاههم.. وفي الحالتين كانت النتيجة المحزنة تردي العلاقات الاجتماعية بين الملاك والمستأجرين وضياع العدالة.. فهذا مالك مع إيقاف التنفيذ (!!).. وذاك مستأجر غاصب للملكية بحماية القانون (!!).
استمر هذا الواقع البائس عشرات السنوات, وتعاقبت عليه أنظمة حكم وحكومات وبرلمانات لم تقو علي مواجهته بشجاعة وتصحيحه وظلت تزيحه جانبا بدعوي عدم الإضرار بالطبقات الفقيرة الكادحة وعدم المساس بالقيم الإيجارية المتدنية التي ماتزال تحكم مساكنهم- حيث تم تحرير إيجارات الاستخدامات غير السكنية منذ نحو ربع قرن- لكن عندما توفرت الإرادة السياسية أخيرا وجاء وقت تصحيح واحد من أعتي الأخطاء الثورية في بلادنا ها هو مشروع قانون جديد لإعادة تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في المباني القديمة يقدم لمجلس النواب وتتم مناقشته تمهيدا لإصداره.. وبالأخذ في الاعتبار جميع الخطوات الانتقالية ونسب الزيادة التدريجية في الإيجارات ومدد سريان العقود القديمة قبل انقضائها, أري في ذلك القانون عودة لعدالة غائبة طال انتظارها.
*** ملحوظة واجبة التسجيل: لست مالكا لأي عقار أو وحدة سكنية, إنما أكتب ذلك وأنا في موقع المستأجر الذي طال تدليله علي حساب المالك!!.. أما عن الهزات العنيفة التي قد تنتج عن التشريع الجديد فتلك سأتناولها في مقال قادم بإذن الله.