قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (603)
منذ بضعة أسابيع فتحت وطني ملفا شائكا مسكوتا عنه في مجال الرياضة تحت عنوان الأقباط والرياضة.. ابتعاد أم استبعاد؟! حيث تم تسليط الأضواء علي أن الرياضة -مثلها مثل الكثير من الأنشطة والأمور الحياتية- باتت في حاضرنا مجالا للفرز والتفرقة بين المصريين بناء علي عقيدتهم, بالرغم من أن تاريخنا المعاصر -قبل نصف قرن من الزمان- يشهد علي شيوع ممارسة الرياضة بين المصريين وظهور الكثير من الموهوبين والمتميزين من الأقباط في مختلف فروع الرياضة حيث ارتقوا إلي مراتب البطولة ومنهم من حصل علي شرف تمثيل مصر خارجيا وأوليمبيا وعالميا وحاز الكئوس والميداليات.
وأعود وأكرر أن ذلك المناخ الصحي الذي ساد في مجال الرياضة مثله مثل الكثير من الأنشطة والأمور الحياتية كان نتاج الاختلاط الحياتي الطبيعي بين المصريين -مسلمين وأقباطا ويهودا وأرمن وسائر العرقيات التي عاشت علي أرض مصر- دون تكلف أو افتعال ودون دراية أو تركيز علي أية اختلافات بينهم.. فالكل نشأ وترعرع علي هذه الأرض وامتزج بنسيجها الوطني واشتبك حياتيا مع سائر أقرانه فيها دون أن يعوقه أحد عن المشاركة أو يساومه علي التفوق أو يزيحه بعيدا عما يستحق.
لكن يجب أن نعترف أن مصر دخلت منذ ما يقرب من ستة عقود عهد أزمة جري فيه تصنيف المصريين إلي فئات ونوعيات ولم تعد الهوية المصرية كافية لكفالة الحقوق ولا المساواة ولا الفرصة.. بدأ الأمر بفرز العرقيات الوافدة التي استوطنت مصر عبر عشرات السنين مثل اليونانيين والإيطاليين وسائر الأوروبيين علاوة علي الأرمن واعتبار أبناءهم وأحفادهم -الذين ولدوا علي هذه الأرض ويعيشون عليها منصهرين مع المصريين- أجانب ليس لهم حقوق المصريين وعليهم مغادرة البلد تطبيقا لسياسات غاشمة خلطت بين أخطار تتعرض لها مصر من دول خارجية وبين طرد الأجانب الذين يعيشون علي أرضها!!!.. ثم تمادت تلك السياسات لتصب جام غضبها علي اليهود المصريين وتضعهم في قفص الاتهام والإقصاء عقب تفجر الصراع العربي الإسرائيلي وتنتقم منهم بسبب يهوديتهم!!!… وأخيرا جاء دور الأقباط مع اجتياح نعرة التعصب الديني والتأسلم ليتجرعوا نصيبهم من الكراهية والفرز والإقصاء.. لكن الأقباط مصريون حتي النخاع, فلم ينفع معهم الاستبعاد من البلد كسائر من سبقوهم, فكان عليهم البقاء ودفع ضريبة التشكيك في وطنيتهم تارة ومساومتهم علي حقوقهم تارة ثانية ونفيهم داخل وطنهم في مراتب مواطني الدرجة الثانية حيث يشار لهم حتي في أفضل الظروف بمسميات أحد عنصري الأمة.. أو قبول الآخر.. في حالة من حالات غياب الوعي وفقدان الإدراك أن الوعاء الذي طالما انصهر فيه المصريون فقد أعز وأغلي ما فيه من ثراء وتنوع.
وكان من الطبيعي في زمن الأزمة هذا أن الأقلية العددية القبطية 0وهي تواجه خطر تهميشها تتقوقع وتتخذ لنفسها الملاذ الدفاعي الذي تحمي به نفسها من الضربات, فكان أن انسحبت من الكثير من المجالات الحياتية التي طالما شاركت فيها بشكل عفوي طبيعي ومنها مجالات الأنشطة السياسية والثقافية والاجتماعية والفنية والرياضية, حيث استعاضت عن ذلك بتأسيس التجمعات والأندية والمراكز القبطية المناظرة- سواء داخل الكنائس أو خارجها- حتي أن من بقي من الأقباط يمارس تلك الأنشطة مع أقرانه المصريين المسلمين بات ظاهرة ملفتة يشار إليها بالبنان باعتباره شاذا عن القاعدة أو غريبا وعليه أن يقنع بالوقوف في الصفوف الخلفية.
وكانت النتيجة أن هناك داخل الكنائس أو المؤسسات القبطية التي فتحت ذراعيها لاحتضان الأقباط المنفيين داخل وطنهم, ظهرت في مختلف الأنشطة العناصر الواعدة والمتفوقة ولم يمنع النفي من التميز والنبوغ, ولكن التميز والنبوغ يولدان أحلام البطولة, والسبيل إلي البطولة يحتم الخروج من الدوائر الخاصة إلي الدوائر العامة للمنافسة والظهور علي مستوي المناطق والمحافظات والأندية التي هي بدورها السبيل إلي التمثيل الوطني والبطولات الخارجية.
وهنا كان علي الأقباط في مجال الرياضة أن يدفعوا ضريبة استغرابهم ورفضهم داخل بلدهم, فلم يجدوا الترحيب من القائمين علي شئون الرياضة.. لا في الأندية ولا في الاتحادات ولا في الفرق القومية.. كان هناك في انتظارهم مزيج من التعصب والاستغراب والرفض وحتي في حال قبولهم شكلا في بعض الأحيان وفي بعض الجهات تولي الفرز بعد ذلك إقصاءهم وإخراجهم من دوائر المشاركة الحقيقية.. وغضب الأقباط واحتجوا وثاروا دون أن يدركوا أن ما فعلوه في زمن الأزمة من الانسحاب والتقوقع ساهم إلي حد غير قليل فيما يعانونه.. ولعلي أستدعي من الذاكرة مفارقة مضحكة مبكية لتجسيد هذا الواقع, فقد حكي صديق وطني قبطي بارز أن أحد أقرانه المسلمين المهمومين بأمر مواطنة الأقباط سأله: لماذا يلعب أولادكم الكورة في حوش الكنيسة بينما يلعب أولادنا الكورة في الشارع؟.. وأترك لكم ذلك السؤال ليجسد الواقع المريض ويبحث عن إجابة لكيفية علاجه بعد أن خرجت مصر من محنتها في 30 يونية وسارت علي درب التحديث والإصلاح.. فلنعد إلي الوعاء المصري الوطني لننصهر معا فيه.. فلا يكفي لتغيير الواقع البكاء عليه بل العمل علي العتق منه.