لم يكن بالإمكان توجيه ضربة أقرب إلي قلب القطاع المالي في الهند مما حدث الأسبوع الماضي. فمنطقة السوق التجاري الواقعة علي الواجهة المائية لمدينة مومباي -وهي التي كانت مسرحا للهجمات الإرهابية مؤخرا- هي بوابة البلاد الاقتصادية منذ أيام التاج البريطاني: فسوق البورصة يقع بين الفندقين اللذين كان يحاصرهما الإرهابيون, كما أن كبريات المجموعات التجارية في البلاد تقع مراكزها الرئيسية كلها في أمكنة قريبة من هذا المكان. وهكذا فإن بوسع المرء تخيل أن المسلحين الذين حاصروا المدينة وقتلوا عشرات الأشخاص فيها الأسبوع الماضي ألحقوا أضرارا فادحة بواحد من أسرع الاقتصادات العالمية الكبري نموا. ولكن هذا الافتراض خاطئ. ويقول دانييل ميلسر, كبير المحللين الاقتصاديين في موقع Economy.com التابع لشركة ##مودي## في سيدني الأسترالية إن ##هناك أحداثا أكثر أهمية بكثير تحدث في الاقتصاد العالمي في هذه اللحظة من الإرهاب الذي وقع في الهند##. وأضاف إنه رغم أن تلك الهجمات كانت مرعبة جدا, فإن ##التأثير الاقتصادي سيكون ثانويا##.
وفي الأيام والأسابيع القليلة المقبلة, ستتبدي صلابة وقدرة الهند علي مقاومة مثل هذه الأحداث بوضوح للعيان. وقد بدأ استعراض الثقةمن جديد حين حقق سوق البورصة الرئيسي في مومباي, الذي فتح أبوابه حتي في الوقت الذي كانت فيه القوات الخاصة الهندية تقوم بتطهير المنطقة من الإرهابيين, ارتفاعا طفيفا في ذلك اليوم, علي عكس ما حدث في سوق البورصة في نيويورك بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر أو ما حدث في أسواق لندن المالية بعد هجمات لندن عام 2005, حيث انخفضت مؤشرات تلك الأسواق بصورة حادة في تلك الأيام. وبطبيعة الأمر فقد تنخفض الأسواق المالية الهندية حين يتضح التأثير الكامل لاحقا لهذه الهجمات الإرهابية, وهي أسوأ هجمات تتعرض لها مومباي منذ حملة التفجيرات المنسقة التي دمرت سوق البورصة في المدينة واستهدفت محطة القطارات الرئيسية فيها ما أدي إلي مقتل 250 شخصا في يوم واحد عام .1993 ولكن غالبية الخبراء يتفقون علي أن نوبة التهيج والفوضي هذه ستنتهي في نهاية الأمر. وتقول سوميترا تشودوري, وهي عضو في مجلس المستشارين الاقتصاديين لرئيس الوزراء الهندي: ##في الأمد القصير أتوقع أن يكون التأثير سلبيا بصورة كاملة. فالناس الذين لهم أعمال تجارية مع الهند سيترددون بسبب هذا الوضع في اتخاذ خطوات استثمارية في البلاد الآن. ولكن هذا سرعان ما سيتلاشي خلال شهر أو اثنين, ولا أعتقد أنه سيكون هناك أي ضرر دائم في الأمد المتوسط أو الطويل##.
وباختصار, فإن هجمات الأسبوع الماضي لم تغير ##القصة## الهندية التي يجدها المستثمرون قصة جذابة. فالهند لا تزال تقف متميزة بين مثيلاتها من الأسواق الناشئة من حيث طبقتها الوسطي الكبيرة وقطاع خدماتها المزدهر وانخفاض اعتمادها علي الصادرات. وعلي عكس الكثير من الدول الآسيوية الأخري, فإن المحرك الرئيسي لاقتصاد الهند هو الاستهلاك المحلي, وهو ما يجعل اقتصادها صلبا بصورة فريدة في الأوضاع الاقتصادية العالمية المتدهورة حاليا. وفي ضوء أن مراكز النمو الاقتصادي الهندي منتشرة في الكثير من الصناعات وموزعة علي الكثير من المناطق الجغرافية المختلفة عبر البلاد, فإن الاقتصاد الهندي ليس معرضا للانهيار من جراء ضربة ساحقة من النوع الذي يمكن أن توجهه أي جماعة إرهابية إليه. وينبغي أن يبقي كل هذا علي النمو المحلي قويا نسبيا, وأن يمنع المستثمرين الأجانب من أن يصبحوا فزعين أكثر من اللازم بحيث يتوقفون عن الاستثمار في الهند, شريطة أن تقوم السلطات الهندية بسرعة باستعادة الأمن والنظام في البلاد. ويقول سوبير جوكارن, كبير المحللين الاقتصاديين في مؤشر كرايسيل, وهو فرع مؤشر ستاندرد آند بورز الأمريكي في الهند, إن الهجمات الأخيرة ##سرعت وتيرة الأمور بوضوح… وهكذا فإن الانطباعات الخاصة بالتهديد سترتفع بصورة دراماتيكية. ويمكن للمرء أن ينظر إلي مثال نيويورك التي -علي الرغم من هجمات 11 سبتمبر- عادت سريعا للوقوف علي قدميها. أعتقد أن مومباي ستفعل الشيء ذاته, شريطة أن يرد النظام بقوة. وهنا تكمن مصادر عدم اليقين الآن##.
الصناعة الوحيدة التي لا يرجح لها أن تتجنب صعقة كبيرة هي صناعة السياحة. ##الهند البديعة## -وهي حملة الترويج الحكومية السياحية البراقة- بات من المؤكد لها الآن أن تتخلف عن تحقيق هدفها المتمثل في مضاعفة عدد زوار الهند الذي كان خمسة ملايين العام الماضي بحلول عام .2010 بل وقد يتراجع هذا العدد كما فعل في تجارة السياحة في بالي الإندونيسية بعد تفجيرات الملاهي في المنتجع السياحي الإندونيسي عام 2002, إذ أدت تلك التفجيرات إلي خسارة ثلث الحركة السياحية إلي المدينة بين عشية وضحاها تقريبا. يضاف إلي ذلك أن السياحة الهندية هي أي شيء إلا أن تكون بديعة بلغة الأرقام فكل ما يستطيع مشهد الإرهاب أن يفعله هو جرف القاعدة الصغيرة لهذه الصناعة. وفي المقابل فإن بالي وحدها ستحصل علي نحو مليوني سائح أجنبي هذا العام, كما أن من المتوقع للصين أن ترفع من عدد زوارها الذي بلغ 132 مليون شخص عام .2007 وفي الوقت الذي يقترب فيه الناتج القومي الإجمالي للهند من 1.2 تريليون دولار, وهو مبلغ لا تمثل فيه السياحة سوي أكثر قليلا من 10 مليارات منه, فإن تأثير حصول تباطؤ كبير في هذه الصناعة سيكون ثانويا.
الخبراء يركزون الآن علي خطرين حقيقيين يمكن أن نكون لهما تأثيرات اقتصادية أبعد مدي. الأول هو أن جهوزية الهند لمكافحة الإرهاب لن تتحسن كثيرا. فالتحدي الماثل أمام الهند الآن يتمثل في إعادة صوغ قوة شرطية قومية صغيرة مكونة أساسا من خريجي المدارس الثانوية المدربين للقيام بحمل الهراوات -ليس إلا- للإبقاء علي النظام بين أوساط بعض الجماهير المحتجة. والخطر الثاني هو أن إرهابيين مثل أولئك الذين شلوا الحياة في مومباي الأسبوع الماضي سيتسببون في اندلاع أعمال عنف طائفية بين الغالبية الهندوسية في الهند وجيرانها المسلمين, الذين يمثلون نحو 14 بالمائة من عدد سكان البلاد البالغ مليار نسمة. وواقع الأمر أنه في ضوء أن الهند ستشهد انتخابات وطنية العام المقبل, فإن هناك حافزا لدي قادة الفصائل السياسية المقسمة علي أسس دينية وجغرافية لزيادة الخطاب السياسي المتطرف لديهم من أجل حشد مؤيديهم, بغض النظر عما يفعله ذلك لمناخ الأعمال والتجارة في الهند.
حتي الآن يبدو أن غالبية السياسيين يتحدثون بلغة التهدئة. أل كيه أدفاني, زعيم حزب بهاراتيا جاناتا المعارض, خفض من خطابه الهندوسي القومي المتسم بالحدة عادة, داعيا إلي رد موحد من جميع الأحزاب السياسية علي الهجمات الإرهابية. ويقول جوكارن إن النبرة التصالحية ##هي أمر مثير للتشجيع جدا##, ولكنه يضيف أنه من أجل أن يكون هذا فعالا, فإن علي هذه اللاحزبية أن تقود إلي ##إطار مؤسسي تستطيع الحكومة المقبلة العمل علي إنجازه بسرعة, بغض النظر عمن سيكون في سدة الحكم##. وإذا لم يحدث هذا, بل وإذا نجحت أعمال إرهابية أخري في خلق الانطباع بأن وضع الهند الأمني آخذ في التدهور, فإن طبقة البريق التي تطلي بها قصة النمو الاقتصادي الهندية قد تبدأ بالتقشر عن تلك الصورة غير الملطخة بعد.