تنغرس الأعياد في عمق الإنسان المصري بجذور تصل إلي أعماق التاريخ فهي تعبر عن سعادته بالخير وفرحته بمعبوده الذي يسخر له الحياة وينعم له بالخير فعبد الشمس والقمر وعبد النيل والحيوان باحثا عن الإله الأعظم الذي ينظم له الحياة وينعم عليه بالمسرة فيها. وبهذا المفهوم كانت تنمو فيه روح الانتماء وتنغرس فيه الوطنية وحب الوطن والإخلاص له والخوف عليه. حقا إنها مشاعر لا تختفي وروح وطنية جعلت المصري القديم يحتفل ويفرح ويبتهل ويصلي ويرسم مشاهد للأعياد يجعل منها لوحة وطنية تجمع كل أفراد المجتمع بروح السعادة والفرح حول مفهوم يسمي العيد, فرسم مظاهر الفرح والاحتفال علي جدران المعابد وسجل للتاريخ أول أعياده الوطنية وهو عيد مباركة الأنهار المعروف بعيد النيروز.
فالنيروز هو عيد وطني قومي مصري بكل المقاييس أول من عرفه واحتفل به هو الإنسان المصري القديم قبل ظهور الأديان علي أرض مصر, وقبل أن يعرفه الفرس يحتفلوا به فهو تراث وتاريخ يعتز به كل مصري بدأه عند نهر النيل ووضع له طقوسا خاصة يعلن بها فرحته بزيادة مياه نهر النيل الذي يدعي باللغة (القبطة) المصرية القديمة (نياروؤو) هذه الكلمة التي أضاف إليها الاستعمار اليوناني لمصر حرف (S) كما يفعل بقاعدة الأسماء اليونانية فأصبح النطق لها (نياروس) ويقول العلامة الأنبا لوكاس المتنيح أسقف منفلوط: إن كلمة نيروز ليست هي فارسية بل كلمة مصرية قديمة أصلها (نياروز) وهي اختصار لجملة مكررة في الصلاة نيارو أزمو أروؤو وهو قرار شعري ابتهالي إلي الخالق لمباركة الأنهار وتبعا لقواعد الاختزال في اللغة القبطية فعوضا عن تكرار القرار الشعري كاملا بنصه واقتصادا في الكتابة يكتفي بكلمة واحدة أو كلمة وجزء من الكلمة الثانية ويوضع فوقها خط أفقي يعني الإشارة التي توحي إلي القارئ بتكميل الجملة المختزلة وبتكرار القرار بوضعه نياروس أو نياروز في يوم أول السنة القبطية القديمة ومعناه عيد بركة النهر والمقصود بها نهر النيل وروافده.
كان أول احتفال بعيد النيروز المصري في عهد الملك مينا الأول في عام 4000قبل الميلاد مع العلم أنه كان يحتفل به بصورة غير رسمية قبل هذا التاريخ بسنين كثيرة في اليوم الأول من شهر توت المصري القديم وهذا ما تؤكده لنا الآثار والمخطوطات القديمة واستمر الاحتفال به علي مر العصور ومع اختلاف العصور وأجناس المحتلين لمصر حتي دخول العرب فهم أيضا كانوا يحترمون هذا العيد ويحتفلون به مع كل المصريين بعيدا عن النواحي الدينية, فلا يمكن أن نمحو من ذاكرة التاريخ ما كانت تقوم به دولة المماليك في عيد النيروز وما كانت تقوم به الحكومة من دفع المبالغ الكبيرة من المال وتوزيع الهدايا من الملابس الحريرية والفاكهة وكانت تعطي المعونات وتوزع علي يد من كان معروف بـأمير النيروز وكان يوم النيروز أبهج أيام السنة ولا ننسي عهد الدولة الفاطمية فكان النيروز فيه عيدا وطنيا لكل المصريين وقال عنه المقريزي: كان النيروز القبطي في أيامهم من جملة الأعياد والمواسم فتتعطل فيه الأسواق ويقل فيه سعي الناس في الطرقات وتفرق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة وأولادهم ونسائهم والرسوم من المال وحوائج النيروز.
كان يوم النيروز في عهد محمد علي له مذاق وطني خاص فكانت تدق فيه الطبول وتعطل فيه جميع الأعمال, وفي عهد سعيد باشا أصدر أمرا في 7يوليو عام 1855م بأن التاريخ القبطي هو التاريخ الرسمي في دواوين الحكومة أي يوم النيروز وهو الأول من توت هو بداية التقويم المصري الرسمي المعمول به في دواوين الحكومة, واستمر العمل به لمدة عشرين عاما إلي أن جاء إسماعيل الذي أبدله بالتقويم الغربي الأفرنجي لمصالح خاصة بينه وبين الغرب, ولكن مازال إلي الآن يعمل الفلاح المصري بالتقويم القبطي الذي اتخذته الكنيسة القبطية (المصرية) تقويما لها يسمي الآن تقويم الشهداء واعتبرت ارتواء أرض مصر بالنيل هو أيضا عيد ارتواء أرض مصر بدم شهدائها الذين استشهدوا بروح الطاعة في عصر الاستشهاد الذي عاصره دقلديانوس الجاحد مؤكدة وطنيتها واحتفاظها بهذا العيد الوطني الأصيل.
وأود عزيزي القارئ أن أعرض لك موقفا وطنيا ذكره لنا القمص بولس باسيلي في كتابه الحب والإخاء في صفحة رقم 173 قال: عندما حل عيد النيروز في عام 1919 قرر الجميع مسلمين ومسيحيين وعلي رأسهم الزعيم الوطني سعد زغلول أن يكون الاحتفال به احتفالا قوميا عاما وتقرر أن يعقد في جمعية التوفيق القبطية وهي أكبر جمعية قبطية في مصر ووجهت له الدعوة من المرحوم فتح الله بركات باشا والمرحوم مرقس حنا باشا ومما ذكره مرقس باشا في ذلك الحفل: لنا أعياد قومية وطنية أربعة عيد وفاء النيل وعيد شم النسيم وعيد رأس السنة الهجرية وعيد رأس السنة القبطية وهو عيد النيروز. كما قال المرحوم عاطف بركات باشا: إن عيد النيروز هو مبدأ سنتنا الشمسية التي تسير عليها حسابات الأمة في زرعها وضرعها وكل مناسباتها الزراعية. وقد أرسل جميع المحتفلين من مسلمين ومسيحيين إلي رئيس الوزراء في ذلك الحين يطلبون اعتبار هذا اليوم عيدا رسميا.
ويا للعجب!! من أن البعض ينسبون النيروز إلي الفرس ويقولون إن كلمة نيروز فارسية الأصل, فكيف يكون هذا ودولة الفرس لم يكن لها كيان إلا قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي 1500 عام تقريبا, والمعروف أن المصري القديم احتفل به رسميا عام 4000 قبل الميلاد, نعم الفرس يوجد عندهم عيد للنيروز إنما يختلف عن النيروز المصري توقيتا ومعني فهم يحتفلون به في عيد الربيع وتفتيح الزهور في يوم 21 من آزار, وله طقوس خاصة تستمر لمدة أسبوع منقولة إليهم من المجوسية وبعض العادات التي تحارب العقيدة الإسلامية فما ذنب النيروز القبطي الذي يذكرنا بهويتنا ووطنيتنا؟ مما جعل كل مستعمري مصر في العصور القديمة يحترمونه ويحتفلون به إنما العجب الأكبر أنه عندما جاء حكم مصر في إيدي أبناء مصر اختل الأمر وصدر القرار المهزوز رقم 14 لسنة 1962م ليقول لا للنيروز ليمضي حزينا ينعي وطنيته وأصالته ويقول وامصراه أين هوية المواطنة المفقودة التي وقعت في أيد غير أمينة.
كلمة من الصميم: نريد أن يعدل القرار رقم 14 لسنة 1962 ويصدر أمر بالاحتفال بعيد رأس السنة المصرية (عيد النيروز) كما يحتفل بعيد رأس السنة الهجرية وغيرها لأن النيروز يذكرنا بهويتنا ووطنيتنا كمصريين وكلما تذكرناه نتذكر النيل غير الملوث, النيل المعطي, النيل الذي ينعش الحياة علي أرض مصرنا الحبيبة, فهو مسئولية وزارة الري ووزارة البيئة والإعلام والثقافة نرجو أن يكون موضع اهتمام من كل الوزارات المعنية وأن يكون له نظرة خاصة, فالنيروز عيد كل المصريين بعيدا عن التعصب الديني ولك الله يا مصر.
[email protected]