فضلت أن أسافر إلي الإسكندرية في القطار فلا تزعجني أدوات تنبيه السيارات المنطلقة في الصحراوي, ولا تتعب أعصابي من سباق السيارات التي تبدو كما لو كانت عربات أتاري علي الطريق.
تمنيت أن أجلس علي مقعدي في القطار وأغمض عيني وأنام وأغسل أذني من ضوضاء القاهرة التي تحاصرنا بلا هوادة فتصم الآذان وتثير الأعصاب.
رغم أنني أعلم يقينا أنني لا يمكن أن أستغرق نوما في وسيلة من وسائل المواصلات, إلا أن الأمل الأقرب إلي التحقيق أن أغمض عيني وأريح أذني, إنه حق إنساني مشروع.
وبمجرد تحرك القطار من محطة القاهرة اخترقت أذني أغنية منطلقة من هاتف السيدة الحالة أمامي لتدخل في مكالمة مستمرة لا تنقطع وتبدو كما لو كانت من طرف واحد. فلم ألاحظ أنها سكتت برهة لتستمع ما يقوله محدثها.. ولم تحاول أن تخفض صوتها قليلا إن لم يكن من منطلق الحفاظ علي حق المحيطين في عدم الانزعاج من الصوت المستمر فعلي الأمل الاحتفاظ بأسرارها الخاصة التي ظهرت بوضوح لكل من حولها عبر مكالمة طويلة استمرت – دون مبالغة – حتي وصول القطار المنطلق من القاهرة إلي محطة سيدي جابر!!.. ولم تكن هذه المكالمة هي الصوت الوحيد المزعج في القطار وإنما كانت رنات الموبايل المتسابقة عبر موبايلات الركاب تخترق الآذان متداخلة ومتنافرة دون هوادة.. فهذه أغنية شبابية وأخري من الزمن الجميل, وتلك من آيات القرآن وأخري من ترانيم كنسية.
وجدت طفلا صغيرا يجلس علي الصف الآخر من مقاعد القطار مستندا برأسه علي والدته وماسكا محمولا هو الآخر وكل النغمات والرنات والأغاني منطلقة تباعا.. ويبدو أنه وجد لعبة جميلة باستعراض رنات موبايل والدته ليسلي نفسه عبر طريق طويل!!.
وطبعا ليس من حقنا أن نستغرب ما يفعله الصغير لأنه سمة ركاب القطار كلهم أو معظمهم!!.
تساءلت في داخلي لماذا لا تعلق لافتة في القطارات تقول: من فضلك اجعل موبايلك صامتا.. وضحكت في نفسي ساخرة ولسان حالي يقول: لماذا تنفع مثل هذه اللافتة إنها فقط ستلصق بجوار مثيلاتها ممنوع التدخين.. هذه المقاعد مخصصة لكبار السن.. أهو كلام في الهواء لا يلزم أحدا حتي ما هو مجرم بقوة القانون.. لم يفعل علي أرض الواقع.
فكم من مسببات للضوضاء حولنا يجرمها قانون البيئة.. ولكن أين التفعيل؟!.. فكلنا نري سرادق الأفراح وكذلك المآتم المنتشرة في شوارع القاهرة.. ولم يسلم منها حيا راقيا كان أم شعبيا, وأصوات مكبرات الصوت تصم الآذان وتثير الأعصاب وتتعدي المستويات المسموح بها وتستمر في بعض الأحيان حتي الفجر, علي الرغم أنه من المفترض وفق قانون البيئة أن يستخرج أصحاب هذه السرادق تصريحات تحدد فيها مستويات الصوت وانتهاء العمل بها.. وطبعا انتشار الفساد يجعل كل ذلك هباء وتجعل كسر القانون سهلا.
وتقول خبرة القليليون – وهم الذين لجأوا لتحرير محاضر إزعاج – إن هذا لا يتم من قبل الشرطة إلا إذا أصر المبلغ علي ذلك, لأن الشرطة تعتبر ذلك أمر هينا لا يستحق الإبلاغ وأنه حتي إذا تحول الأمر إلي القضاء فإن الأحكام تكون بغرامة قدرها مائة جنيه فقط!!.
وما العجب إذا كانت الحكومة ذاتها تخترق قانون البيئة فكثير من أعمال الحفر التي تقوم بها تمتد حتي ساعات متأخرة من الليل, علي الرغم من أن قانون البيئة المزعوم لا يسمح بها بعد السادسة مساء!!.
وبعد – عزيزي القارئ – أرجو أن تسامحني إذا لاحظت عدم تسلسل أفكار مقالي, فأنا أجاهد من أجل التركيز في كتابة هذه السطور فأسفل بيتي خبط ورزع مستمر داخل محل يعيد تجهيزاته وترميماته ليعدل نشاطه فيكسر حوائط أو أرضيات, ناهيك عن صوت المنشار الكهربائي في ورشة من ورش الألوميتال التي ربنا فتح عليها برزق والمنشار شغال ليل نهار وطبعا الجيران لبعضها ونحتمل بعضا البعض!!
نسيت أن أقول لك إنها الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. ولا عزاء لقانون البيئة.
[email protected]