مشكلة أي دولة أن يصاب الذين يعملون في إعلامها بالتخلف والجهل, وهم ـ المفروض ـ المسئولون عن تكوين الرأي العام المستنير فيها حتي يعرف الشعب الحقائق والاستراتيجية والسياسات المختلفة, ثم يعمل علي تحقيق أهدافها, فيعزف الجميع سيمفونية التقدم والرفاهية. الأسبوع الماضي طلع علينا أحد مذيعي الفضائيات بكلام غريب وحقائق ساخرة ثم رأي غير موضوعي أو غير عاقل, قال المذيع.. هناك فجوة كبيرة بينم أعمار الرجال والنساء بلغت عشر سنوات زيادة في عمر المرأة, مع أن الفرق كان منذ سنوات قليلة سنتين أو ثلاث فقط.. ثم يفترض الرجل أسباب هذه الفجوة هو أن المرأة حصلت علي كل حقوقها وأصبحت تتعامل مع الرجل بعنف مما تسبب في هذه الفجوة في العمر! ثم يقترح هذا المذيع الذكوري التفكير والذي لا يعرف أن المرأة مساوية للرجل تماما كما خلقها الله, يقترح أننا لابد أن ندافع عن الرجل المسكين الذي قصفت المرأة عمره وأخذت منه عشر سنوات! وحتي يكون الاقتراح عمليا يطالب المذيع الدخيل علي العمل الإعلامي يطالب الدولة بإنشاء مجلس قومي للرجل يدافع عنه ويطالب بحقوقه ويحفظها له علي غرار مجلس قومي المرأة.
المشكلة أن الفضاء أصبح مستباحا لكل من هب ودب يخلق مشكلة من عنده, وهي ليست مشكلة, ثم يبحث عن حل لها, حتي تجود قريحته بحل, ثم يشغل الفضاء بهذا الكلام الفارغ, وهو ملء فراغ الفضائيات الكثيرات والتي لا تجد ما تقوله أو تقدمه!!
المشكلة أن هذا الرجل لو أمعن تفكيره في هذه المشكلة ـ لو كانت مشكلة ـ سيعرف أن الحياة أصبحت صعبة جدا, وأن الضغوط التي يعانيها الرجل كثيرة وأكثر من التي علي المرأة, لدرجة أننا نسمع عن شباب زي الفل من الرجال يقدمون علي الانتحار طواعية لكثرة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. فهل نعتبر هذه المشاكل خلقتها المرأة أم هي مشاكل الحياة نفسها, وغلاء الأسعار, وانتشار الأمراض, ونذكر ما فعلته (كورونا) بمصر والعالم كله.
وأذكر هنا فتاة شابة جميلة في ريعان شبابها أقدمت علي الانتحار لأن طفلها جاء إليها يطلب طعاما وقال لها.. أنا جائع يا أمي, وعندما لم تجد طعاما لم تتمالك نفسها وأقبلت علي الانتحار.. هناك حالات كثيرة مماثلة. يضاف لذلك أن بعض الرجال يتجهون إلي المسكرات والمخدرات التي تقصف العمر. ثم الأمراض الكثيرة التي انتشرت أخيرا. ومسئولية الرجال العديدة نحو زوجته وأبنائه بالإضافة إلي أمه وأبيه وإخوته, إن وجدوا, من هنا نجد معظم الرجال يبحثون عن عمل إضافي لعملهم الأساسي حتي يقوموا بمسئولياتهم. بل ومنهم يعمل ثلاث أعمال ولا يجد الوقت للنوم أو للأكل.. أليس ذلك سببا كافيا للموت مبكرا؟! ثم هل المرأة هي سبب ذلك أم شعور الرجل بمسئوليته؟ بالإضافة إلي طلبات الزوجة الكثيرة التي لا تنتهي ولا ترحم؟!!
كل ما أرجوه أن يفكر مذيعو الفضائيات الكرام قبل أن يفجروا قضايا وهمية ساذجة يشغلون بها الرأي العام علي الفاضي بدلا من الاهتمام بالفكر والثقافة وتكوين رأي عام مستنير فعلا.
حبذا أن يفعل المذيعون الذين لا يعرفون ماذا يقدمون ويقولون. كما لم يفعل الأستاذ إبراهيم عيسي والأستاذة لميس الحديدي وغيرهما من الذين يعرفون مسئولية الفضائيات الحقيقية بدلا من ضياع وقت الناس في قضايا وهمية ساذجة ساخرة! المشكلة أن مشكلة الإعلام هذه ليست في مصر فقط, بل في كل العالم حتي المتحضر ومنذ القدم. فهذا هو عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني.. يورغن هابرماس, والذي بلغ من العمر أجمله ـ 93 عاما ـ وما زال يهتم بالإنسان ويفكر من أجل الإنسانية. ففي كتابه الجديد [تغيير هيكلي جديد في المجال العام والسياسة التداولية, يؤكد ما عبر عنه منذ ستين عاما في كتابه التغيير الهيكلي في المجال العام, الذي صدر عام 1962 وحذر فيه من الإعلام المضلل وهيمنته وسيطرة النخبة عليه, لكنه في كتابه الجديد يتحدث عن انفجار وشيك وإن حدث لن ينجو منه أحد. وأن الحل الوحيد هو في تغيير الخطاب الإعلامي السائد الذي سيؤدي استمراره إلي انتشار الهمجية بين البشر وفوضي ستهلك الجميع.
الإعلام خطير جدا ولابد للمجتمعات أن تهتم به حتي تتقي شره, وأهم خطوات هذا الاهتمام اختيار القائمين عليه حتي يكونوا مثقفين, موضوعيين, أسوياء الشخصية, مستنيرين, يؤمنون بأهمية الإنسان في الحياة, وأن الإنسان هو الرجل والمرأة وأنهما متساويان تماما, ثم ضرورة الإيمان بوحدة الجنس البشري وعدم التفرقة لأي سبب.
إلي لقاء