علي ضفاف نهر هادسن في مدينة نيويورك, وفي احتفال مهيب حضره كل من وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تمثيلا للرئيس باراك أوباما, وجانب من ضباط وجنود البحرية الأمريكية, وجمع من عائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر, دشنت البحرية الأميركية مراسم إطلاق السفينة يو. أس. أس نيويورك USS New York, وأعلنت إدخالها إلي الخدمة في سلاح البحرية الأمريكي, وفي مهمة محددة وهي مكافحة الإرهاب في العالم.
يتشكل قوس السفينة البرمائية العملاقة من 7.5 أطنان من الفولاذ المصهور من بقايا حطام برجي التجارة العالميين في نيويورك. أما تكلفة بنائها فبلغت 1.2 مليار دولار أمريكي. وتعرض قمة السفينة صورا من البرجين المتهاويين, وملامح مأخوذة من الهندسة المعمارية لأبنية مدينة نيويورك, المدينة العنقاء القائمة من رمادها, والتي سارعت إلي التعامل مع الهجمات الشرسة التي تعرضت لها بسرعة نوعية وجسارة لافتتين, ولملمت جراحها لتستأنف حياتها الطبيعية علي مرارة الحدث الذي هز الأرض بيد والسلم الدولي باليد الأخري.. جرت أعمال بناء السفينة في ميناء مدينة نيوأورلينز من ولاية لويزيانا, المدينة الناجية أيضا من إعصار صاغته غضبة الطبيعة هذه المرة, وليس غضبة البشر!
ومدينة نيويورك ليست بالحاضرة العادية, ولا سفينتها التي ارتفعت من الفولاذ المصهور لحطام برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك اللذين انهارا علي أجساد ثلاثة آلاف مدني أمريكي ونيف في مراكز عملهم من صباح محتوم, يمكن أن تكون سفينة حيادية!
نيويورك, توليفة للمجازات الكونية, أو نبتة ماردة من حديد ملوي, أو امرأة نصف عارية تتلوي علي سطح مياه هادسن الشاهدة.. نيويورك اسم ما ولد من الأرض, ومما تبقي من الأرض أيضا.
من اسمها تنفجر حبات المطر اللامعة كخيوط من الفضة الموصولة تبلل الروح حين تجول في كثافة حي بردواي الطافح بشهوات فنون الأرض قاطبة.
من اسمها تركض سفن الغابات الإسمنتية, وسفينتها الأخيرة ارتفعت من صراخ قتلاها وقد تطايروا من شرفات أحلامهم في الطوابق 81, 90و…95 وما فوق, وسقطوا كرات من غبار في سلال من قش من نجا من طوفان العصر كاترينا في مدينة نيوأورلينز.
الناجون من طغيان إعصار كاترينا أعادوا صياغة الدمار سفينة لردع دمار آخر محتمل! لكن, من سيعيد صياغة أحلام من سقطوا في غفلة ذاك الصباح النيويوركي المحمول علي غبار الجريمة, من يوقظ جمهرة الموتي من موتهم وينفخ لهم في الصور؟ من يلملم دموع الصغار حين ذهبت الأم وحلواها في زوبعة من حقد الغرباء؟
نيويورك أعلنت حملتها علي العنف بعملية تدوير للعنف (Recycling), حين اشتقت من معدن الرعب والموت جسما يشق البحر في اتجاه خط أفق منزوع الجريمة.
نيويورك انتصرت علي الموت بتدوير أدواته تماما كما تدور زجاجات الكوكا كولا الفارغة, لتصار إلي بطانيات وألبسة ولوازم مدرسية من البوليبستر توزع علي المنكوبين في العالم.
فكيف لنا أن نقرأ, بنازع ضميري, درس الفولاذ المختلط برفات من ذهبوا في سقطة من الضمير البشري؟ متي ندرب أنفسنا علي إدارة دفة انفعالاتها باتجاه التوليد المنتج عوضا عن الإلغاء الهدمي؟ كيف نكبح جنوح ذاك المارد المتعاظم من نسيج الكره ورفض الآخر والرهاب من كل ما هو مغاير ومحدث (بفتح الدال حينا وكسرها أحيانا)؟ كيف نسيطر علي شهوة احتراف العنف المصبوب علي رؤوس المدنيين ونحيد العزل عن حروب العسكر؟ ومتي يتوقف من يقاتل باسم الله عن انتهاك كلام الله في قوله من قتل نفسا بغير نفس, أو فساد في الأرض, فكأنما قتل الناس جميعا؟
قال القائد العام للبحرية الأمريكية, راي مابوس, في حفل إطلاق السفينة يو.أس.أس نيويورك: مهما بلغ عدد المرات التي نتعرض فيها لهجمات, فإننا دائما سنعود إلي استئناف حياتنا الطبيعية. فهل يمكن للعالم فعلا أن يعود إلي نقطة ما قبل هجمات 11 سبتمبر (أيلول)2001 علي الأراضي الأمريكية؟ أم أن هذا الحادث الذي رسم بدايات عنفية للألفية الجديدة سيشكل مدارا تسير علي هديه الدموي أجندات دولية مجهولة الأبعاد والهوية, كان سيناريو حرب العراق أعظم فواتحها, وليست أفغانستان بالمشهد الأخير منها؟