في 11 سبتمبر من كل عام يحتفل المواطنون الأقباط (المصريون المسيحيون) بعيد النيروز, والنيروز جاءت من الكلمة القبطية (ني- يارؤو) أي الأنهار, حيث يوافق ذلك الوقت من العام ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل, ولما دخل اليونانيون مصر فإنهم أضافوا حرف السي فأصبحت نيروس فظنها البعض نيروز الفارسية التي تعني يوما جديدا.
وسواء كان المعني المقصود هو الأنهار واكتمال الفيضان أو اليوم الجديد, فإنه في النيروز يكون نهاية سنة مصرية/ قبطية وبداية سنة مصرية/ قبطية جديدة, توافق هذا العام 1736ق (قبطية) أو ش (أي للشهداء), فالنيروز هو عيد رأس السنة المصرية وهو أول يوم في السنة الزراعية الجديدة, كما أنه يوافق عيد الشهداء, ولهذا التقويم قصة جديرة بالذكر جيلا بعد جيل, فلقد اتخذ الأقباط من عام 284م بداية لهذا التقويم (القبطي/ المصري/ تقويم الشهداء), هو العام الذي تولي فيه الإمبراطور الروماني دقلديانوس الحكم (284-305م), إذ كانت مصر آنذاك تابعة للإمبراطورية الرومانية, حيث قام هذا الإمبراطور باضطهاد المسيحيين في كافة أنحاء الإمبراطورية, وفي مصر دافع الأقباط عن عقيدتهم وإيمانهم المسيحي حتي نال البعض منهم شرف الاستشهاد, من الرجال والنساء, من الشيوخ والشباب والأطفال.
ومن ثم فإن عيد النيروز يوافق عيد الشهداء, حيث يتذكر المصريون المسيحيون هؤلاء الشهداء الذين حافظوا علي المسيحية بدمائهم, ولعل من أبرز العادات الشعبية المرتبطة بهذا العيد تناول ثمار البلح والجوافة, ففي داخل ثمرة البلح توجد نواة قوية تشير -بالمعني الرمزي- إلي الإيمان الصلب, وقلب الجوافة لونه أبيض في إشارة رمزية أيضا إلي الطهارة والنقاء والصفاء وغيرها من صفات طيبة تحلي بها هؤلاء الشهداء.
النيروز هو عيد مصري أصيل وعيد قومي لكل المصريين علي مختلف أديانهم, حيث ارتبط الفلاح المصري بشهور السنة القبطية (تضم 13 شهرا هي بالترتيب: توت- بابة- هاتور- كيهك- طوبة- أمشير- برمهات- برمودة- بشنس- بؤونة- أبيب- مسري- نسيء), وقد ظهر العديد من الأمثال الشعبية التي ترتبط بتلك الشهور, منها علي سبيل المثال لا الحصر: كيهك يجعل صباحك مساك في إشارة إلي فصل الشتاء وقصر فترة النهار وطول فترة الليل, طوبة يخلي الصبية كركوبة بسبب شدة البرد القارس في ذلك التوقيت من السنة, برمهات روح الغيط وهات حيث يأتي موسم الحصاد.. إلي آخره من الأمثال.
وطوال السنة تصلي الكنيسة القبطية من أجل مياه نهر النيل ومباركة فيضان النهر, كما أنها تصلي من أجل كل فئات المجتمع حيث تصلي للرئيس والوزراء والجند, كما تصلي من أجل أهوية السماء وثمرات الأرض والدواب, ويختتم الكاهن تلك الصلوات بقوله: فرح وجه الأرض ليرو حرثها ولتكثر أثمارها. أعدها للزرع والحصاد, ودبر حياتنا كما يليق. بارك إكليل السنة بصلاحك من أجل فقراء شعبك, من أجل الأرملة واليتيم والغريب والضيف ومن أجلنا كلنا نحن الذين نرجوك ونطلب اسمك القدوس, لأن أعين الكل تترجاك, لأنك أنت الذي تعطيهم طعامهم في حين حسن. اصنع معنا حسب صلاحك يا معطيا طعاما لكل جسد. املأ قلوبنا فرحا ونعيما لكي نحن أيضا إذ يكون لنا الكفاف في كل شيء كل حين نزداد في كل عمل صالح, ويجاوبه الشعب قائلين: يارب ارحم, إذ هكذا تعبر تلك الصلوات وغيرها علي أن الكنيسة القبطية هي مؤسسة مصرية أصيلة غير منعزلة عن المجتمع وإنما هي كنيسة اجتماعية ترتبط بالوطن في همومه وأفراحه علي حد سواء.
والجدير بالذكر هنا أنه بعد أحداث ثورة سنة 1919م, التي كانت نموذجا للاندماج القومي والتكامل الوطني بين المصريين, حسب جل المؤرخين, فقد كان المواطنون المسلمون يشاركون مواطنيهم الأقباط في احتفالات هذا العيد, ومن ذلك مثلا أن الاحتفال بعيد النيروز في سنة 1919م قد جاء احتفالا مختلفا, حيث تقرر أن يكون الاحتفال بهذا العيد في تلك السنة احتفالا مصريا قوميا, وكان ذلك من وحي ثورة 19, التي أنتجت شعارا خالدا يقول: الدين لله والوطن للجميع, حيث أقيم العديد من الحفلات في عدد من الأندية والمسارح العمومية والجمعيات الأهلية, صبت جميعها في اتجاه التأكيد علي وحدة شعب مصر, من المسلمين والمسيحيين, والتأكيد علي أنهم مثل أعضاء الجسد الواحد, وأنهم من أصل واحد لهم أم واحدة هي مصر وأب واحد هو النيل, وأنه تجمعهم لغة مشتركة واتحاد في التربية والعادات والتقاليد, كما تجمعهم مصالح واحدة بحكم العوامل والظروف الطبيعية والاجتماعية والسياسية.
إنها دعوة لاعتبار عيد النيروز عيدا قوميا لكل المصريين, لاسيما وأن التقويم القبطي قد ظل هو التقويم الرسمي المعمول به في المصالح الحكومية حتي أواخر عهد الخديوي إسماعيل, وعلي وجه التحديد حتي عام 1875م الموافق 1591ق/ش آنذاك, حيث أمر الخديوي إسماعيل (1863-1879م) باستعمال التقويم الغربي بناء علي رغبة الأجانب بسبب تأسيس صندوق الدين وتدخلهم في أحوال مصر المالية والاقتصادية.
بمناسبة عيد النيروز, كل عام ومصرنا الحبيبة بخير, وشعبها الطيب في محبة وفرح وسلام.