في مصر, وتحديدا في الإسكندرية في القرن الثالث الميلادي, ظهر أحد كبار علماء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية, إكليمنضس السكندري (150-215م), وفي هذا التوقيت كان تخوف من الفلسفة وتأثيرها علي الدين, لكن إكليمنضس السكندري صالح بين الفكر الديني والفلسفة, وانفتح بفكره علي العلوم والآداب الموجودة في ذلك العصر, وأصبح رائدا في هذا المجال فأطلق عليه أب الفلسفة المسيحية, والمعلم التربوي, فجمع ما بين العلوم الدينية والأدب الدنيوي, لذا قيل عنه: مجلداته المعروفة مملوءة علما وفصاحة, يستخدم الكتب المقدسة والأدب الدنيوي, في رأيي أنه أكثر الجميع علما, وكان أيضا رائدا تربويا وكتب لنا كتاب المربي, وكتب لنا في العلوم السلوكية والاجتماعية كنوزا موجودة حتي الآن.
وفي أيامنا هذه نقف أمام عملاق تربوي جديد, فكما قيل عن إكليمنضس إنه يستخدم الكتب المقدسة والأدب الدنيوي, ومجلداته المعروفة مملوءة علما وفصاحة, هكذا نحن الآن أمام أستاذنا العالم الجليل الدكتور رسمي عبدالملك الذي يستخدم الكتب المقدسة كخادم لكنيسته ويستخدم الأدب الدنيوي متمثلا في التربية وعلم النفس, وكما كتب لنا إكليمنضس السكندري كتابه التربوي الفريد المربي كتب لنا الدكتور رسمي عبدالملك كتاب التربية وعلم النفس من وجهة نظر المسيحية, وهو ببراعة فائقة يغوص في أعماق الكتاب المقدس ليخرج لنا كنوزا ودررا تربوية غاية في الجمال.
والاقتراب من الحديث عن الدكتور رسمي عبدالملك مغامرة ومخاطرة, لكن لابد منها, مخاطرة لأننا أمام عملاق ورائد تربوي كبير وأستاذ أجيال في هذا المجال, نحن أمام سجل حافل من الإنجازات في خدمة الكنيسة والوطن, لذا فالكلام عنه في مقال لا يوفي ولا بنسبة ضئيلة هذا التاريخ العريق لهذا الرجل الذي خدم مصر لما يزيد عل نصف قرن, فكيف لمقال بسيط كهذا أن يسجل هذه الإنجازات الهائلة, ولكن نعتبر أن ما نقوله في هذا المقال ما هو إلا إطلالة بسيطة لهذا العملاق التربوي, فلو سردنا فقط الوظائف التي تقلدها والكتب التي كتبها والمجالات الوطنية والمؤتمرات المحلية والدولية والعالمية التي شارك فيها, لأعوزنا الوقت.
وكما اهتم إكليمنضس بدور الآباء في رعاية أولادهم وكيف يكونون أمناء لأولادهم, هكذا كتب دكتور رسمي عن كيفية تفعيل دور مجالس الآباء والأمناء والمعلمين في المدارس, وفي العلوم السلوكية علم إكليمنضس بمخاطر الخمر والأمور الإباحية, ولمساعدة المجتمع وضع دكتور رسمي مداخل تربوية لوقاية الطلاب من خطر الإدمان, ودراسة عن تعاطي المخدرات بين طلاب المدارس- الأبعاد التاريخية والاقتصادية والاجتماعية, وذلك مشاركة مع عوض توفيق عوض.
وكما كان إكليمنضس يركز علي المعلم التربوي ويسعي لوضع قواعد لتنمية التعليم المربي, نجد دكتور رسمي مهموما بقضية التعليم وتطويرها وكيف يكون ذلك فقام بدراسة ميدانية عن معوقات تطوير التعليم في مصر, وكان إكليمنضس ينادي بضرورة المشاركة المجتمعية لكي نستطيع أن نتعلم وأننا ليس بمعزل عن العلوم الدنيوية والمجتمع بما فيه, هكذا كان جهاد دكتور رسمي في هذا المجال, وهو كأستاذ للتخطيط التربوي والإدارة قدم لنا كيفية تفعيل دور الشراكة المجتمعية في العملية التعليمية وسلطات المحافظات في إدارة التعليم, وكتربوي قدير قدم هو ودكتور ناصر الخولدة دراسة عن الأسرة وتربية الطفل.
إكليمنضس السكندري يكتب لنا في كتابه الموسوعي المتفرقات كيف نستفيد من الفلسفات والعلوم والآداب والثقافات المختلفة الموجودة في أماكن وشعوب مختلفة. هكذا كان الدكتور رسمي عبدالملك يهتم بالعلاقة بين التعليم الديني والدراسات الثقافية, ولأن دكتور رسمي رجل علم وله إسهاماته العلمية ليس علي مستوي مصر فقط إنما علي المستوي الدولي, قدم لنا دراسته مدخل إلي التعليم الديني والدراسات الثقافية في منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا, وذلك في المعهد الملكي للدراسات الدينية بعمان.
ماذا نقول عن الدكتور رسمي الخادم الأمين والعالم الجليل, فهو الخادم منذ صباه (1954م) ولم يكن مجرد خادم إنما خادم وقائد ورائد فقد أصدر مجلة باسم رسالة النهضة الروحية, وهو طالب ثانوي, واستمر في خدمة الكنيسة حتي وقت وفاته, فهو الأستاذ في الكلية الإكليريكية والمعاهد الدينية وهو عميد معهدي الرعاية ومعهد الدراسات القبطية, وهو أستاذ التربية وعلم النفس وأستاذ العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية, والمشرف علي العديد من الرسائل العلمية في تلك المعاهد والكليات ومناقشا لعشرات الرسائل, وهو أستاذنا القائد في المحافل والمؤتمرات الكنسية.
من الصعب حصر إنجازات هذا العملاق الكبير صاحب العديد من المؤهلات والدرجات العلمية في الخدمة الاجتماعية والدراسات التربوية والنفسية والتربية المقارنة والإدارة التعليمية, وهو الأستاذ المشارك في المؤتمرات العربية والدولية المعنية بالتربية والتخطيط التربوي, وهو المحاضر الكبير والأستاذ بجامعات عديدة وصاحب مئات من المقالات في الصحف العامة والدينية وهو العالم الجليل صاحب اللقاءات الإعلامية الكثيرة في مصر وخارجها.
هو الخبير التربوي المهتم بالشباب, أخصائي رعاية الشباب كلية التربية عين شمس, ومدير عام الأسر الجامعية ورعاية الشباب بنفس الكلية, وهو عميد شعبة التخطيط التربوي بالمركز القومي للبحوث التربوية والتنمية, وهو أحد كبار أعمدة بيت العائلة المصرية, رئيس لجنة التعليم والبحث العلمي لبيت العائلة المصرية, وهو العضو والأمين والمستشار التربوي في العديد من المؤسسات الدولية والكنسية.
المساحة هنا لا تستطيع إيفاءه حقه ولا مجرد سرد إنجازاته, فأنا لم أكتب عن كتبه التربوية, ولا عن كتبه ومقالاته الدينية لضيق المساحة. وأختم كلامي أن إكليمنضس أكثر من وثق وذكر مراجع كثيرة في كتاباته مستخدما البحث العلمي في كتاباته وخاصة المتفرقات, هكذا كان الدكتور رسمي أستاذا لمناهج البحث, ولرغبته في أن الجميع يتعلم البحث العلمي سواء الصغار أو الكبار كتب كتابه الجميل والبسيط والعميق كيف تعد بحثا علميا؟. وبقي الكثير والكثير لنقوله عن أستاذنا الكبير الذي رحل عن دنيانا وبقيت تعاليمه ذاخرة نتتلمذ عليها, فسلاما لروحه.