علي هذا الجبل كانت تجتمع ألوف من طيور (البوقيرس), وهو طائر أبيض الريش وله منقار طويل بلون سن الفيل وله أهداب حول عنقه, وهذا الطير من الطيور المهاجرة التي تهرب من شتاء وبرد أوروبا إلي دفئ شتاء مصر في هذا الجبل, لذلك علل المقريزي تسمية جبل الطير نسبة لتجمع الآلاف من هذا الطائر عليه.
وكما كانت تجتمع الآلاف من طائرالبوقيرس علي هذا الجبل تلتمس دفء الشتاء المصري, هكذا يحدث في أول يونيو من كل عام يجتمع الملايين من المصريين في علاقة محبة وتلاقي وسط دفء من المشاعر المصرية الخالصة والتي يندر أن تجدها في أي مكان آخر.
في الاحتفالات الشعبية التي تكون في الساحة الخارجية لكنيسة السيدة العذراء وفي كل أنحاء قرية دير جبل الطير, لن تجد شبرا فارغا لموضع قدم, ملايين البشر في أسبوع, ستجد المسلم الذي يهتف من أعماق قلبه لتحية العذراء وبجانبه أخوه المسيحي في مشاعر متوحدة روحانية عالية من أي نزعة عصبية, الاثنان مندمجان في تلك اللحظات السامية التي رفعتهم معا عن أي انتماءات إلا المحبة.
كتلة وطوفان من البشر تسير علي هذا الجبل, ضفيرة من الشعب المصري من المسلم والمسيحي يسيرون ويحيون هذه الذكري السنوية, وهذا الملتقي يختلف عن جميع الاحتفالات الشعبية الدينية في مصر كلها, لأن التلاقي والاندماج في هذا المكان يكون في أروع وأجل صوره. يبدأ هذا التلاقي من قبل بدء المولد, حيث يتفق المسلم مع صديقه المسيحي أنه سوف يتقابلان في المولد ليتعشي معه في يوم (العزومة). وهذه أم مسلمة تتفق مع جارتها المسيحية علي الفول السوداني والحمص وزمارة الولد وعروسة البنت, وتزود جارتها المسيحية ببعض المؤن لتقضي بها زيارتها للمولد, ولا تنسي أن تؤكد عليها بأن توقد لها شمعة. هذا في حالة أنها لن تذهب إلي المولد.
أما إن كانت ستزور حسب تعبير الكثيرين, فستقوم هي بزيارة كنيسة العذراء, وتزور المجور وتحرص كل الحرص علي دخول مغارة العائلة المقدسة, وتقوم الأسرة المسلمة بالتسوق (مكسرات وحلويات وألعاب للأطفال وصورة بركة!!) ما يدفعها لذلك لا تعرف لكن هناك شيئا خفيا يربط المسلم مع المسيحي في تلك المناسبات, ولتدخل داخل المولد فستجد المسلم يرسم الصلبان ويبيع الصور والسلاسل والميداليات وعندما تتعامل معه يشرح لك كرامات وبركة هذه الصور والسلاسل ولا تستطيع أن تعرف هل هذا مسيحي أم مسلم, بل الحالة العامة لن تدع مثل هذا السؤال يجول في ذهن أحد, والكل يعرف أن المولد فيه المسيحي والمسلم. وهذا مسلم يلتمس صلوات القسيس, وهذه مسلمة تنذر أن تذهب سيرا علي الأقدام للعذراء.
خارج كنيسة العذراء طوال الليل شباب مسلم مع مسيحي يغنون طوال الليل كله في نشوة وفرح ومحبة, والغريب ستجد المسلم الذي يرنم رشوا الورد يا صبايا, ومظاهر الترابط والتلاقي في جبل الطير علي جميع المستويات فعند الألعاب (المراجيح, والتزحلق , والنشان..) تجد الأطفال مسلمين ومسيحيين يستمتعون معا, الجميع معا بروح واحدة, وكما يقول الصحفي الكبير محمد عبدالله عن هذا المولد: هذه السيمفونية الفريدة قد تجمعت فوق جبل الطير بدير السيدة العذراء, فالناس من كل محافظات مصر جاءوا ليقضوا سبعة أيام يتبادلون الطعام والتهاني والمشاعر الرقيقة وعبارات المحبة, وعن هذه المناسبة يقول: هذا العيد يمكن أن نطلق عليه عيد لكل المصريين.
إنها حقا حالة فريدة تحدث علي جبل الطير, والحقيقة أنه لا توجد قوة ايا كانت تستطيع أن تجمع هذا المزيج وتوحده بهذا الشكل لا إعلام ولا ساسة ولا فلاسفة, إذا ما الذي يحرك هؤلاء معا؟ ما يحركهم هو رابط المحبة وجين مصري فطروا عليه المصريين معا, وهو أقوي من أي شيء. وأيضا لا توجد قوة تستطيع أن تفرقهم عن بعض, لأن هذا الأمر مترسخ في وجدان المصريين, وقد كانت هناك محاولة لمنع المسلمين من حضور تلك الاحتفالات تصدي لها المسيحيون.
وقد ذكر محمد عبدالله في كتابه الذي يتكلم عن ميراث التسامح في وجدان المصريين هذه الحادثة التي كانت في أيام مبارك إذ حاول المسئولون منع المسلمين من تلك الاحتفالات تجنبا للاحتكاك والمشاجرات, ولكن المسيحيين تصدوا لذلك بقيادة القس متي كامل كاهن كنيسة العذراء بدير جبل الطير وهددوا بإلغاء الاحتفالات إن لم يشاركهم أخوتهم المسلمين, وانطلقت مسيرة حاشدة من آلاف المسيحيين تجاه الآلاف من إخوتهم المسلمون المحتجزين بالجانب الآخر للنهر عند المعدية, مما أجبر المسئولين للسماح للمسلمين بمشاركة إخوتهم المسيحيين هذا الاحتفال وتقابل الطرفان بالعناق والفرح وهتافات المحبة والوحدة.
إنها حقا حالة خاصة من الحب والتلاقي تتم علي جبل الطير الذي صار محطة تلاقي للمصريين.