سنة 1940 ذهبت إحدي الشركات التي تعمل في مجال البترول, (شركة كاليفورنيا العربية ستاندرد للبترول) إلي المنطقة الشرقية بالسعودية, حيث تم اكتشاف البترول في المنطقة الشرقية من السعودية, وكانت تلك الشركة تملك إمكانيات مادية كبيرة, وترغب في أن تستثمر في هذه المنطقة الجديدة, وبالطبع ستحتاج إلي أيدي عاملة, وبديهي أنها لن تجلب أيد عاملة من دول أخري أو أماكن بعيدة تكلفها الكثير, لكنها ستستعين بالأيدي العاملة السعودية الموجودة في ذلك المكان الجبلي. والأيدي العاملة الموجودة في ذلك المكان كانت رخيصة ولكن ليس لديها أي خبرة بأي شيء, والشركة تريد أن تستثمر وتكسب, فماذا تفعل الشركة؟
قامت الشركة بجلب العمال المحليين للعمل لديها, ثم قامت بتأهيلهم وتعليمهم قبل إلحاقهم بالشركة فعملت لهم مدارس أولية لتعليمهم المهارات الأولية للعمل في البترول, ثم بعض المعارف كالقراءة والكتابة والحساب, ولكي يكون العامل مؤهلا للعمل ويستطيع أن يقرأ التعليمات الخاصة بالآلات والمعدات لابد أن يتعلم الإنجليزية. وربطت الشركة بين تقدم مستوي العامل في المدرسة وبين عمله في الشركة, لذا قامت في مايو 1940 باستئجار منزل كبير في المنطقة الجبلية وأسسته بالأثاث اللازم للمدرسة وافتتحت المدرسة الأولية بـ19 طالبا وكان لها معلم واحد, ثم زاد عدد الطلاب فافتتحت مدرسة ثانية في الحي السعودي في مقر الشركة في الظهران, ثم تطور الأمر وأصبح الطلاب يقدمون علي تلك المدارس التي طورت موادها وتعددت, فأنشئت مدرسة ثالثة في الظهران عرفت (بمدرسة الجبل) والتي تعتبر مدرسة نظامية ونظمت المدرسة برنامجا تدريبيا مهنيا, وبدأت المدرسة ترتقي بنوعية التعليم, وكان العمال أو الطلاب المتفوقون يعملون بالشركة بجانب تعليمهم, وساعدهم ذلك علي النمو والتقدم في حياتهم وأعمالهم, بل انعكس تأثير هذه المدرسة علي السعودية وبدأت الحكومة السعودية تنظم الإشراف علي هذا التعليم, وهنا كانت طفرة كبيرة في الشركة حيث أصبح لديها عمال مهرة مدربون ومتعلمون مستنيرين ساهموا بشكل كبير في نمو وازدهار الشركة.
ومن أوائل الطلاب الذين التحقوا بمدرسة الجبل أربعة سعوديين, حينما سأل المعلم الأمريكي هؤلاء الأربعة عما يحلمون به عندما يكبرون, أجاب أحد الطلاب والذي كان يعمل مراسلا في مجمع الشركة: أريد أن أصبح عالما وأرأس هذه الشركة, والثاني قال: أريد أن أطير, والثالث قال: أريد أن أصبح طيارا, والرابع قال: أريد أن أصبح طبيبا, وبالفعل تحققت هذه الأحلام, فالأول هو علي النعيمي جيولجي وأول رئيس سعودي لشركة (أرامكو), ثم أصبح وزيرا للنفط, والثاني أصبح طيارا, والثالث أصبح طيارا ومديرا للخطوط السعودية, أما الرابع فقد أصبح طبيبا استشاريا مشهورا.
كل هذا من مدرسة الجبل البسيطة التي بدأت في منزل, فماذا عاد علي الشركة من كل ما قدمته للعمال والشباب السعودي البسيط, ما عاد علي الشركة خير وفير, فالشركة كانت تعي جيدا أنه لن يحدث تقدم ولا تنمية ولا استثمار إلا بالتعليم, فقدمت الخير والنور لهؤلاء البسطاء فعاد عليها بالمليارات, وحققت مجدا عظيما في مجالها. وهذا المبدأ الذي عملت به الشركة هو ما نسميه (المصلحة الذاتية المستنيرة). والتي هي فلسفة أخلاقية تقول إن الأفراد الذين يتصرفون من أجل مصلحة الآخرين (أو مصلحة جماعة من المجموعات التي ينتمون إليها) يحصلون بالمحصلة علي نفع ذاتي يعود عليهم.
وتأتي هذه الفلسفة من فكرة بسيطة وهي أنه يمكن للفرد, أو المجموعة أو لمنظمة أن تحسن صنعا عندما تقدم عملا خيرا. وهذا المبدأ اتبعته دول كثيرة بنظرة مستقبلية, وتبنته شركات ومؤسسات ساهمت في العمل الخيري من منطلق المصلحة المجتمعية, فأنا في موقعي وفي مكاني عندما أقدم خيرا وخدمة للآخرين تنهض به وترتقي بهم, هذا العمل سيعود علي أنا بالخير فيما بعد, فتقدم ونمو الوسط الذي أعيش فيه سينعكس بالخير علي, فلما لا نقدم الخير ونعمل من أجل تطوير حياتنا لكي نحصل علي المصلحة الذاتية المستنيرة, فالذي يقدم خيرا يحصد خيرات, وفيما يخدم الآخرين يخدم نفسه بالأكثر بطريقة غير مباشرة.
ومن يقرأ التاريخ يجد أن الناجحين والمتقدمين هم الذين فكروا بفلسفة المصلحة الذاتية المستنيرة, فمحمد علي الذي خلد اسمه في التاريخ علي أنه أبوالدولة الحديثة سار علي هذا المبدأ فعمل المدارس والمصانع وصرف عليها الكثير وكل هذا عاد بالنفع علي الدولة وعليه هو شخصيا. والجمعيات الخيرية وجمعيات تنمية المجتمع تسير علي هذا المبدأ, فهي تنمي وتطور وتقدم خدمات تطوعية كثيرة من أجل تنمية المجتمع من منطلق المسئولية المجتمعية والتي يجب أن نتبناها جميعا, وكل هذا سينعكس بالخير علي المجتمع وبالتالي ينعكس علي مستوي جودة حياتنا. ياليت كل مسئول في مكانه يفكر هكذا.
ولتضع أمام عينيك دائما أن نمو وتقدم وتنمية ما حولك يبدأ منك, ويعود عليك أنت, إذ ما فكرت بالخير بمبدأ المصلحة الذاتية المسنيرة وتذكر دائما: ارم خبزك علي وجه المياه فإنك تجده بعد أيام كثيرة.