تمتلك الكائنات الحية، بما فى ذلك لإنسان، قدرات بيولوجية واجتماعية ونفسية “للتكيف” مع المتغيرات والمستجدات والظروف غير المواتية، وهي عمليات متواصلة ومستمرة من أجل البقاء، وفي حين يخبرنا علماء الأحياء أن التكيف ظاهرة حيوية لازمت تطور الكائنات الحية منذ فجر التاريخ، فإن التظورات اللاحقة جلعت من مفهوم التكيف أداة للبحث والتفكير واسعة الانتشار، ومؤخرًا بات التكيف أداة تطبيقية في إطار التخطيط لمواجهة الضغوط والأزمات التي زادت حدتها. وكما هو معروف فإن انتشار مفهوم ما على نطاق واسع يعطيه قوة وزخم، ولكن في الوقت ذاته قد يصيبه بالغموض وعدم التحديد، وحتى إساءة الاستخدام، وبكلمات أخرى، عندما يخرج المفهوم عن نطاق مجاله العلمي، ويدخل المجال الأيديولوجي تتغير وظيفته المعرفية من أداة للفهم ولتفسير إلى أداة للفعل وربما التبرير. وهذا ما ينطبق على مفهوم التكيف والذي نبت في علم الأحياء (البيولوجي) وامتد إلى مجالات علم النفس والاجتماع والبيئة، ومنها انتقل إلى المجالات السياسية والتنموية والثقافية والإعلامية.
ولغويا فإن كلمة “التكيف” لها أصول لاتينية تفيد “التوافق مع شئ ما”، وأصول في اللغة العربية، ربما أقل اتصالا بالمعنى الحالي للمفهوم كأن نعتبر أن التكيف يأتي من “الكيفية التي
يكون عليها الشئ”، إلا أن المعنى الحالي يعود إلى تطور العلوم الحيوية فى بداية من القرن السادس عشر، ليتبلور فعليا في القرن التاسع عشر. ووفق مصادر علم الحياة (البيولوجي)، فإن مفهوم التكيف يشير إلى “حالة” و”سيرورة أو عملية” تتمكن من خلالها الكائنات الحية من البقاء والتكاثر، أي حالة تفاعلية بين الكائن الحي
وبيئته.
وكما يقول أحد الباحثين، فإن نظرية التطور هي الرافعة الرئيسية لتشكيل مفهوم التكيف،ففهم تطور الكائنات هو في
مضمونه فهما للتكيفات التي حدثت وجعلت هذه الكائنات قادرة على الحياة والتكاثر والتطور.
ويعود الفضل في إرساء الدلالات الأساسية للمفهوم إلى عالمي الأحياء جان باتيست لامارك وتشارلز داروين في القرن التاسع عشر، فكلاهما أسس لفكرة أن الكائنات الحية كانت في وضعيات مغايرة لما هي عليه الآن وخضعت على الدوام لمسارات تكيفتطوري، وهي عملية متواصلة وضرورية للبقاء سواء تعلق الأمر بمقولة لامارك “أن العضو الذى لا يعمل يضمر” أو مقولة داروين “البقاء للأصلح” كأساس لفكرة “الانتخاب الطبيعي”.
وعلى الرغم من انتشار مفهوم التكيف ودخوله مجالات معرفية أخرى، إلا أنه يظل مفهوما مستعارا من علم الحياة، وهذا ما نجده فى التعريفات القاموسية. فعلى سبيل المثال، نقرأ فى معجم العلوم الاجتماعية للدكتور إبراهيم مدكور: “التكيف مصطلح من مصطلحات علوم الأحياء.
ويقصد به أى تغير في الكائن الحى فى الوظيفة أو الشكل ييسر له الاحتفاظ ببقائه كفرد أو نوع، أو هو تلك العمليات التي يتوافق بواسطتها الكائن الحي مع بيئته الطبيعية والمادية. وقد نقل هذا لمصطلح إلى العلوم الإنسانية، ففي علم النفس يقصد به تغير فى نمط سلوك الفرد يظهر في محاولته التوافق مع الموقف الجديد. اما فى علم الاجتماع فيقصد بالتكيف الاجتماعي تعديل السلوك، وفقا لشروط التنظيم الاجتماعي وتقاليد الجماعة والثقافة”. وفي نفس الموضع نقرأ ملاحظة تفيد “ان كثرة تداول المصطلح “تكيف” في غير ما أنشيء لأجله، وهو المعنى الحيوي (البيولوجي)، أدت إلى نوع من الغموض في استعماله من الناحية العلمية الدقيقة”.
وفي مصدر آخر، وهو معجم علم النفس والتحليل النفسي للدكتور فرج طه،نجد أن كلمة “تكيف” تأتي تابعة لمصطلح آخر رئيسي وهو “التأقلم”، والذي يعني: “قدرة الفرد على التكيف مع الظروف المناخية، ويعرف أيضا “بالتبيوء”، أى التجاوب مع البيئة المادية ومنها الظروف المناخية. ومعنى ذلك أن الظروف الجديدة من حول الفرد تحكم عليه -اضطرارا- أن يغير من نفسه واتجاهاته وبعض عاداته، وأن يعدل أيضا فيما حوله ومن حوله من مواقف واشخاص لكي يستطيع التفاعل الاجتماعي بسهولة ويسر. والتأقلم يعني هنا تحقيق مستوى من التوافق الاجتماعي والشخصي يمكنه من النجاح في التعامل مع البيئة الجديدة”. وهنا تجدر الإشارة إلى الفرق بين مفهومى التكيف Adaptationوالتأقلم Acclimation. فالتكيف يرتبط بالتطور أى بالتحولات الجسدية والجينية طويلة المدي، وهي تحولات غير قابلة للارتداد، أما التأقلم فهو أقرب لفكرة “الاستجابة”، أى التحول على المدي القصير استجابة لظروف محددة، ويمكن للكائن بعدها العودة إلى حالته السابقة. وبما أن الأمر كذلك، فثمة فرق فى الاستخدام بين علم الأحياء والتطور من ناحية، والعلوم الاجتماعية الاجتماعية والإنسانية، من ناحية أخرى. وهذا يدعم الرأى القائل بأن استخدام مفهوم “التكيف” خارج نطاق علوم الأحياء يتسم بعدم الدقة.
وبالنظر إلى الخطابات العامة حول “التكيف”، ومنها الخطابات السياسية والتنموية، فربما يكون الالتباس والغموض أكثر وضوحا. فمن ناحية أولى، يتبين الخلط بين “التكيف” و”التأقلم”، لأن الحديث عن تمكين الناس من مواجهة الضغوط والمتغيرات النفسية والاجتماعية والبيئية لا يعد “تكيفا” بالمعنى الحيوي، بقدر ما هو دعوة لتكوين استجابات واعية من أجل مواجهة هذه الظروف أو التخفيف من حدتها. ومن ناحية أخرى، ثمة ما يمكن أن نطلق عليه “أيديولوجيا التكيف”، حيث يجري تقديم “التكيف” بوصفه الحل، إن لم يكن حلا سحريا، لمواجهة كوارث وأزمات وضغوط أغلبها من صنع البشر أنفسهم ومن أجل تحقيق مصالح اقتصادية أو سياسية. وبدلا من علاج أسباب المشكلات، يجري الترويج “للتكيف” كحل للتعايش مع المشكلات التي تبدو كالقدر المحتوم، وبالتالي فإن المسئولية تقع علي عاتق المتضررين وليس صانعي المشكلات والأزمات والنزاعات والحروب.