الحقول المفتوحة في فلسطين، باتت تنبت قهراً، فبعد مرور ما يقرب من خمسة أشهر على الحرب المدمرة في غزة، يهيمن الجوع على المشهد الإنساني، ليهدد ما تبقى من ابسط الحقوق لدى المواطن الغزي، بسبب الحرب على غزة، وفي ظل الجوع المنتشر وغياب قوافل المساعدات بسبب القيود الصارمة المفروضة على القوافل التي تدخل القطاع. صارت الحقول المفتوحة ملاذاً للشباب، يجد فيها طعاماً يسد الرمق، فالظروف المعيشية في القطاع المحاصر وصلت إلى حالة مزرية وتتدهور بشكل منهجي، وفيما تستمر جولة العنف الأخيرة التي بدأت في 7 أكتوبر، تبدأ كل صباح رحلة شباب فلسطينيين ممن فقدوا سبل كسب رزقهم، فسعوا إلى جمع وبيع النباتات البرية، تلك النباتات التي لطالما تناولها الفلسطينيون كأطباق جانبية منذ أجيال، وأصبحت الآن مصدراً غذائياً رئيسياً لسكان قطاع غزة..
يقول سكان دير البلح (وسط قطاع غزة) إن أسعار هذه النباتات، التي تنمو في البرية ولا توفر سوى القليل من التغذية، ارتفعت بشكل حاد بعد أن أصبح حصادها من قبل البائعين ممارسة شائعة. ففي الفترة التي سبقت الحرب، كانت النباتات البرية الصالحة للأكل مثل الخبيزة متاحة بشكل مجاني لأي شخص يرغب في قطفها، إلا أن الناس يضطرون الآن إلى شرائها لإطعام عائلاتهم مع نفاد المخزون الغذائي في القطاع وندرة المساعدات الإنسانية.
يعلو صوت الشاب أحمد فياض في أسواق دير البلح مناديا على بضاعته، بعدما كان طالب صيدلة في إحدى جامعات غزة قبل الحرب، – حاله كحال آلاف الشباب الذين تعطلت أحلامهم بسبب الحرب الطاحنة- يلجأ أحمد الآن إلى بيع الخبيزة في الشوارع لإعالة نفسه وعائلته بعد نزوحه مؤخراً وسط احتدام القتال في مدينة خان يونس الجنوبية.
انعدام مقومات الحياة
ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، فإن واحدة من كل أربع أسر على الأقل في غزة تواجه الآن مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي أو ظروفا شبيهة بالمجاعة.، وتقول منظمة الفاو إن أكثر من 46 % من الأراضي الزراعية في غزة دمرت جراء الحرب، وأن 97 % من المياه في القطاع غير صالحة للاستهلاك البشري. ووفقاً لتقارير وكالة الأونروا، فإن المساعدات التي تدخل قطاع غزة توفر ما لا يزيد عن ثلاثة% من احتياجات سكان القطاع.، فقبل بدء هذا الصراع الأخير، كانت تدخل غزة يوميا 500 شاحنة محملة بالإمدادات التجارية والإنسانية. أما اليوم فقد تضاءل هذا العدد إلى حوالي 98 شاحنة في المتوسط لهذا الشهر.
أما شمال قطاع غزة حيث تلوح المجاعة في الأفق، فلم تتمكن الأمم المتحدة من تقديم أي مساعدات منذ 23 يناير، واضطر الناس هناك إلى اللجوء إلى أعلاف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة. كما أفاد العاملون الإنسانيون التابعون للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلة بأن قوافل المساعدات المتجهة إلى شمال غزة لا تزال تتعرض لإطلاق النار وتمنعها السلطات الإسرائيلية من الوصول.
وبالرغم من التحذيرات المتتالية من المجاعة، والتي يطلقها المندوبون في مجلس الأمن إلا ان امراً واحداً يسيطر على المشهد وهو الجمود، ففي الجلسة الأخيرة لمجلس الامن الدولي حذر مسؤولون أمميون من أن ما لا يقل عن 576 ألف شخص في غزة، أي ما يعادل ربع عدد سكان القطاع، “على بعد خطوة واحدة من المجاعة”، وأن طفلا واحدا من بين كل 6 أطفال، دون سن الثانية، في شمال غزة يعاني من سوء التغذية الحاد والهزال.، جاء ذلك خلال جلسة عقدها مجلس الأمن، تحت بند “حماية المدنيين في النزاعات المسلحة”، وتم تخصيصها لبحث مسألة انعدام الأمن الغذائي في غزة. واستمع المجلس إلى إحاطات من رامش راجاسنجهام، نائب منسق الإغاثة في حالات الطوارئ، نائب المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ماوريتسيو مارتينا، ونائب المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، كارل سكاو.
التخلي عن الأراضي الزراعية المنتجة
حذر راميش راجاسينجام من أنه “على الرغم من كآبة الصورة التي نراها اليوم، فإن احتمالات المزيد من التدهور قائمة”، مشيرا إلى أن العمليات العسكرية وانعدام الأمن والقيود الواسعة النطاق على دخول وتسليم السلع الأساسية أدت إلى تدمير إنتاج الغذاء والزراعة. كما تطرق إلى تحذير خبراء الأمن الغذائي من انهيار زراعي كامل في شمال غزة بحلول شهر مايو إذا استمرت الظروف الحالية، مع تضرر الحقول والأصول الإنتاجية أو تدميرها أو تعذر الوصول إليها، مشيرا إلى أنه لم يكن لدى الكثيرين خيار سوى التخلي عن الأراضي الزراعية المنتجة بسبب أوامر الإخلاء والنزوح المتكرر.
وأضاف أن الأعمال العدائية ونقص الإمدادات الأساسية، بما فيها الكهرباء والوقود والمياه، أدت إلى توقف إنتاج الغذاء فعليا. وأوضح أن “الجوع وخطر المجاعة” يتفاقمان بسبب عوامل تتجاوز مجرد توافر الغذاء. وأوضح أن عدم كفاية خدمات المياه والصرف الصحي والرعاية الصحية “يؤدي إلى خلق حلقة من الضعف”، حيث يصبح الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية، وخاصة بين عشرات الآلاف من المصابين، “أكثر عُرضة للأمراض التي تؤدي إلى المزيد من استنزاف الاحتياطيات الغذائية للجسم”.
ونبه رامش راجاسنجهام إلى أن الارتفاع الحاد في معدلات سوء التغذية بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات في قطاع غزة يشكل “مصدر قلق بالغ بشكل خاص”. وقال: “أضف الاكتظاظ المزمن والتعرض للبرد وغياب المأوى الملائم إلى هذا النقص في التغذية، فتكون بذلك قد خلقت الظروف الملائمة لتفشي الأمراض الوبائية على نطاق واسع”.
عقبات هائلة
وجدد المسؤول في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التأكيد على أن العاملين في المجال الإنساني يواجهون “عقبات هائلة لمجرد إيصال الحد الأدنى من الإمدادات إلى غزة، ناهيك عن تصعيد الاستجابة المتعددة القطاعات التي ستكون مطلوبة لتجنب المجاعة”.، وأكد أن جهود الأمم المتحدة لا تزال تعاني من عمليات إغلاق المعابر، والقيود الخطيرة على الحركة، ومنع الوصول، وإجراءات التدقيق المرهقة، والحوادث التي يشارك فيها مدنيون يائسون، والاحتجاجات وانهيار القانون والنظام، والقيود المفروضة على الاتصالات ومعدات الحماية، وطرق الإمداد غير القابلة للعبور بسبب تضرر الطرقات والذخائر غير المنفجرة.
وأضاف راجاسينجام أن “تعليق التمويل لوكالة الأونروا يشكل تحديا لقدرتنا على القيام باستجابة فعالة”. وأفاد بأن الحقيقة الصارخة هي أن الاستجابة بالمستوى المطلوب ستكون مستحيلة دون اتخاذ إجراءات فورية ومتضافرة من جانب الأطراف المعنية ومجلس الأمن والدول الأعضاء الأخرى والمجتمع الدولي الأوسع.، وحذر المسؤول الأممي من أنه إذا لم يتم فعل أي شيء، “فإننا نخشى أن تكون المجاعة واسعة النطاق في غزة أمرا لا مفر منه تقريبا”، وأن الصراع سيكون له المزيد من الضحايا.
المذكرة البيضاء
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وزع مذكرة بيضاء بتاريخ 22 فبراير حول انعدام الأمن الغذائي في قطاع غزة، والتي تم ارسالها للمجلس وفقا للقرار 2417 لعام 2018، الذي يطلب من الأمين العام أن يقدم تقريرا سريعا عند حدوث “خطر المجاعة الناجمة عن النزاع وانعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع”. وقدم نائب المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ماوريتسيو مارتينا إحاطة لمجلس الأمن بشأن حالة الأمن الغذائي في غزة، وقال : إن سكان غزة يعانون من مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي الناجم عن الصراع، حيث يتزايد خطر المجاعة “يوما بعد آخر”.، وفي كلمته أمام مجلس الأمن الدولي، قال ماوريتسيو إن جميع سكان القطاع البالغ عددهم حوالي 2.2 مليون شخص يواجهون مستويات “أزمة أو أسوأ” من انعدام الأمن الغذائي، وهي “أعلى نسبة على الإطلاق من الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد وفقا للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي”.
وأشار مارتينا إلى أن البنية التحتية المدنية- بما في ذلك تلك الأساسية لإنتاج وتجهيز وتوزيع الأغذية مثل الأراضي والدفيئات الزراعية والمخابز ونظم الري- قد تعرضت لأضرار بالغة أو دمرت أو أصبح من الصعب الوصول إليها. بالإضافة إلى ذلك، طال الدمار القطاع التجاري نتيجة للحصار الإسرائيلي المشدد على القطاع، مما أدى إلى استنزاف سريع للمخزونات الغذائية المستوردة.
وتأثرت سلسلة الإمدادات الغذائية بأكملها جراء الحرب، كما أثر نقص الوقود وانقطاع الكهرباء بشكل كبير على أنظمة الأغذية الزراعية والبنية التحتية للمياه ومحطات التحلية، و”حوالي 97 % من المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك البشري”، وفقا لنائب مدير عام الفاو.
وأضاف: “قبل النزاع الحالي، كان إنتاج الغذاء في غزة يسمح بالاكتفاء الذاتي في معظم الفواكه والخضروات؛ وقد أدى الصراع إلى تعطيل هذا الأمر بشدة. في السيناريو الأكثر ترجيحا، سوف ينهار الإنتاج الزراعي في الشمال بحلول مايو 2024. ونحن نشهد هذا الانهيار بالفعل. يُظهر تحليل بيانات الأقمار الصناعية اعتبارا من شهر كانون الأول/ ديسمبر انخفاضا كبيرا في صحة وكثافة المحاصيل مقارنة بالمواسم الستة السابقة. واعتبارا من 15 فبراير 2024، أفاد تقييم بتضرر 46.2 % من جميع الأراضي الزراعية”.
وقال مسؤول منظمة الفاو إن القيود الصارمة المفروضة على المساعدات الإنسانية “جعلت من المستحيل القيام بأي عمليات إنسانية مجدية”، وبالتالي فإن المستويات الحالية من المساعدة غير متناسبة تماما مع الاحتياجات الهائلة.وشدد على أن وقف الأعمال العدائية واستعادة المجال الإنساني لتقديم المساعدة متعددة القطاعات واستعادة الخدمات الحيوية هي خطوات أولى أساسية في القضاء على خطر المجاعة. ودعا جميع الأطراف إلى احترام التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان وحماية المدنيين، وأضاف: “إن الوقف الفوري لإطلاق النار والسلام شرطان أساسيان للأمن الغذائي، والحق في الغذاء هو حق أساسي من حقوق الإنسان”.
جوع الأطفال
وفي إحاطته لأعضاء المجلس، أشار نائب المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، كارل سكاو إلى تحذير لجنة استعراض المجاعة من احتمال حقيقي لحدوث مجاعة بحلول شهر مايو، مع تعرض 500 ألف شخص للخطر إذا سمح لهذا التهديد بأن يتحقق.، وحتى قبل أكتوبر 2023، كان ثلثا سكان غزة يتلقون المساعدات الغذائية. واليوم، يحتاج جميع السكان تقريبا- البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة- إلى المساعدات الغذائية. ويعاني طفل واحد من بين كل ستة أطفال دون سن الثانية من سوء التغذية الحاد.
وأكد استعداد برنامج الأغذية العالمي لتوسيع نطاق عملياته ومضاعفتها بسرعة في حال حدوث اتفاق لوقف إطلاق النار. ولكنه حذر من أن خطر المجاعة يتفاقم بسبب عدم القدرة على إدخال الإمدادات الغذائية الحيوية إلى غزة بكميات كافية، وظروف العمل الصعبة التي يواجهها موظفو البرنامج في القطاع.
ومضى قائلا: “نحن بحاجة إلى بيئة عمل آمنة وفعالة للعاملين في المجال الإنساني، وأن يكون ميناء أشدود ومعبر المنطار مفتوحين، ونظام إخطار إنساني فعال، وشبكة اتصالات مستقرة”.، وحذر كارل سكاو من أن المجاعة وشيكة في شمال غزة، إذا لم يتم فعل شئ، مشيرا إلى أن برنامج الأغذية العالمي وشركاءه يعملون على الأرض، حيث يقومون بتوصيل الغذاء إلى الملاجئ والمخيمات المؤقتة والمحلات التجارية. وأضاف: “لكننا غير قادرين على توفير الغذاء بشكل منتظم أو كافٍ للأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليه. وتظل الحقيقة أنه بدون وصول آمن وموسع إلى حد كبير، لا يستطيع عمال الإغاثة القيام بعملية إغاثة بالحجم المطلوب لإنهاء الأزمة الإنسانية الحادة التي تجتاح غزة الآن”.
وشدد على ضرورة العمل لتجنب المجاعة، منبها إلى أن ذلك يتطلب أكثر بكثير من مجرد الإمدادات الغذائية، مؤكدا على ضرورة استعادة الخدمات الأساسية، بما في ذلك الخدمات الصحية وشبكات الكهرباء وخطوط المياه والصرف الصحي. وأكد أن الأونروا هي المنظمة الوحيدة التي تملك القدرة على الإشراف على هذه البنية التحتية الحيوية في غزة وإدارتها.