البركة لفظ محبب للقلوب، نجده في الدعاء والتهاني والتمنيات والترحيب، وإذا كان الله “تبارك وتعالي” واهب نعمة البركة، فإن هبته تشمل نعم وتشمل وتنتقي وتصطفي. وبين الواهب والموهوب هناك رموز ووسطاء لنشر البركة، وقد يكون الرمز من بنى البشر، وقد يكون جمادا، ويمكن للبركة أن تحل فى الزمان والمكان، فالبركة هبة تكمن فى الشئ فتجعله مباركا ومبروكا. ولعل أكثر ما يتطلع إليه الناس أن تحل البركة فيما هو ملموس ومادي، فى “الأبناء” و”الطعام” و “الصحة”. وهكذا فإن البركة مفهوم تتضافر فيه دلالات دينية ودنيوية، فهى نعمة مصدرها إلهي، ومحركها روحاني ومعنوي، ومبتغاها اجتماعي.
وفي شرح معنى الكلمة، من حيث أصلها فى اللغة العربية، أنها كانت تُطلق على محط رحال الجمال (برك الجمال أو مبرَك الجمال)، وفى هذ إيحاء بالراحة والطمأنينة، و”البِركة”، بكسر الباء، تعني المكان الذى تتجمع فيه المياه بعد سقوط الأمطار، وبحضور الماء يحل الخير ومقومات الحياة. وبهذا تجتمع فى الكلمة دلالات الخير والسعادة والطمأنينة والزيادة والنماء. يقول الصحاح فى تاج اللغة: “البَرَكة: النَّماء والزيادة. والتَّبْريك: الدعاء للإنسان أو غيره بالبركة. يقال: بَرَّكْتُ عليه تَبْريكاً أي قلت له بارك الله عليك. وبارك الله الشيءَ وبارك فيه وعليه: وضع فيه البَرَكَة. وطعام بَرِيك: كأنه مُبارك”. ويقال: بارك الله لك وفيك وعليك وتبارك الله أي بارك الله.
ولأن “البركة” من الجامعة للدينى والروحاني والدنيوي، فإن فهمها يرتبط بشروط إيمانية وروحانية وسلوكية، وهي شروط إذا توافرت تحل البركة، وإذا غابت إنتزعت البركة. وهو ما يعني أن البركة أشبه قابلة للزيادة والنقصان، وحلولها يعني جعل الناقص زائد، وانتزاعها يعنى جعل الزائد ناقص. أما الشروط التي ينبغي توافرها، فقد تكون طقوسا دينية يمارسها الشخص وفق معتقداته، أو سلوكيات دنيوية يتحلي بها مثل القناعة والرضا والصبر والتدبير. وهكذا نلاحظ أن هناك خيط يربط بين ما هو روحاني وما هو اجتماعي ونفسي وسلوكي. فقد يكون الطعام غير كاف بحسابات مادية، ومع ذلك فقد يكون كافيا ماديا لو معنويا، وهذا من علامات البركة. وثمة ثقافات وسلوكيات تضامنية تشيع الراحة والطمأنينة والاكتفاء، فتكون البركة حاضرة، علي عكس ثقافات وسلوكيات تتسم بالأنانية والفردية وعدم الرضا ينقص فيها الزائد.
صحيح أن تمنيات البركة ترتبط ارتباطا وثيقا بشروط الإيمان والروحانيات، وثمة قناعة أن البركة نعمة الله يهبها من يشاء وينزعها عمن يشاء. وهو فهم ينطبق علي كل الأمور التي تتطلب طاقة وقناعة نفسية وروحانية حتى يستشعرها الإنسان. ولكن ثمة شروط عملية لحلول البركة، ولعل التعبير الأهم فى هذا الصدد هو أن “الحركة بركة”، والحركة تعنى العمل والسعى والجد والاجتهاد. وهذا الشرط، لا يتعارض عادة مع الفهم السائد عن وهبة البركة، ولذا نجده فى الخطابات الدينية والثقافات الشعبية. فلا بركة مع التواكل والتكاسل والاعتماد علي الغير، فإذا كانت البركة هبة، فإن العمل عبادة.
وربما لا يخلو مفهوم البركة من دلالات جندرية، فالبركة، من المنظور الثقافي والاجتماعي، ترتبط لحد ما بالأدوار الاجتماعية التقليدية للرجال والنساء، حيث يكون على الرجل مهام العمل والإنفاق وعلي المرأة التنشئة والرعاية، وبالتالي فإن شروط بركة الرجال تتمثل فى الكسب الحلال، فى حين تتمثل البركة الأنثوية فى الأمور ذات صلة بالرعاية والتدبير والتنشئة، وهذا ما نجده فى الثقافة الشعبية من خلال نصائح الأمهات لبناتهن المتزوجات والمقبلات علي الزواج. ففي دراسة بعنوان “طعام المرأة في الثقافة الشعبية: د. إمام حامد”، فإن النصح يأتي من خلال الأمثال والأقوال الشعبية “من رضي بقليله عاش”، “الصبر جميل والرضا بالقليل يجعله كتير” “ربنا يطرح البركة فى القليل عند الصابرين بيكتر ويزيد”، “اصبرى وعيشي عيشتك أهلك وإرضي بقليلك”، “عيشي مع جوزك علي الحلوة والمرة ربنا يبارك لكم فى رزقكم وفى عيالكم”، “إمشي على أدك فى مصروف البيت ما تجريش ربنا يبارك لك إنتى وجوزك وعيالك والمصروف يُستُر معاكي والأكل يكفيكو على مع البركه”، “الست القنوعة بتعيش مستوره”، “خليكى راضيه وقنوعه القناعة بتخلي إيد الست فيها بركة تمسك أي حاجة تلاقيها بتكتر فى إيدها وتزيد”. ووفق هذا المعنى فإن البركة ليست مجرد هبة، ولكن مسئولية، تقع علي عاتق النساء بالأساس، وربما هذا ما يجعلهن الأكثر تمسكا بالشروط الدينية الجالبة للبركة والمانعة لزوالها. وإذا كانت “الشطارة” تجلب المال وهذه مهمة الرجال، فإن البركة تحفظه وهذه مهمة النساء.
ولا شك أن البركة مفهوم عابر للثقافات والطبقات الاجتماعية وحتى السارق والفاسد يتطلع إلى أن تحل البركة فيما سرق أو حصد. ومع ذلك، وبالمعنى السوسيولوجي، فإن الفئات الفقيرة والمستضعفة هي الأكثر تطلعا للبركة وخاصة فى صورها المادية من طعام وصحة واتقاء شر النظر والحسد.
وتظل رهانات البركة منتشرة كآلية نفسية وروحانية فى مواجهة الأزمات ورقة الحال. إن النظر إلى البركة كنعمة من الله لم تكن أبدا منفصلة عن شروط ومتطلبات الواقع الدنيوي، حتى أن البعض يربط حلول البركة بتحقق شروط دنيوية الدنيوية كالعدل والإنصاف وترك الظلم.