· “أن فى الإنسان طاقات اقتدار اه لو يدركها كيف تدار” .. هكذا أدركت وجود الطاقة بداخلى وأحسنت استخدامها
· أننا أمام لعبة سياسة دولية معقدة جدا ومصر ليست هى اللاعب الوحيد فيها
· من الحكمة والأهمية ومراعاة للأمن الاجتماعى ، لابد من الابتعاد عن تعويم الجنيه المصرى
· أخشى أن يتم المساس برغيف الخبز .. لو حدث هذا سيترتب عليه ثورة جياع
· بصراحة الحكومة فى حاجة الى إظهار العين الحمراء للمتلاعبين بأقوات الشعب
· علينا أن نعقد الإرادة فى التخلص من التبعية للخارج فى مجال القمح
· صناعة السيارات .. من الصناعات التى يجب أن تخرج منها مصر
قامة فكرية واقتصادية وإنسانية فريدة من نوعها ، لديه الكثير من الخبرات والدراية العلمية والفطنة بمجريات الأمور ما يجعلك تنحني أمامها ، أنه موسوعة اقتصادية بل أقول سياسية بل أدبية ، تجلس معه فتحتار فى أى ملف تبدأ معه ، أفكاره دائما تكون محل جدال ونقاش دليل على تنوعها و أهميتها ونضجها ، هو الدكتور جودة عبد الخالق أستاذ علم الاقتصاد والمفكر الاقتصادي الكبير الذى يحمل داخل خزينته الخاصة تجربة حياتية مليئة بالتحدي والإرادة والصمود ليصل الى ما وصل إليه ، أنه نموذج للمثابرة والكفاح أمام من يعلق دائما فشله على شماعة الفقر والظروف ، لم يتردد عن خدمة الوطن فقبل تولى وزارة التضامن الاجتماعى والعدالة الاجتماعية فى أحلك الأيام والظروف رغم معارضة زملائه وأصدقائه ، وبخلاف هذا وذاك نجد عشقه للشعر والأدب ، فيغرد بأشعاره قائلا :
من أنا ؟
لست خلا هاله لوع الحنين
أو رفيقا راعه فعل السنين
لست هذا ، لا ، و لا ذاك أكون
لا أنا هذا ..ولكن من أكون؟
“وطنى” التقت المفكر الاقتصادى الكبير الدكتور جودة عبد الخالق فكانت هذه الحلقة فى سلسلة “محاكمة رواد الفكر”..
“حكاية مصرية”
“حكاية مصرية بين تحدي الوجود وإرادة الصمود ” أحد مؤلفاتك الهامة الذى سجلت فيه تجربتك الحياتية منذ نشأتك حتى حصولك على الدكتوراه من الخارج …أريد أن أناقشك فيها :
· من الزراعة الى الرعي .. هكذا فرضت عليك البيئة الريفية أن تمتهن بعض المهن لمواجهة أعباء المعيشة .. ما الذى أضافته لك تلك المهن البسيطة من خبرات حياتية على مدار مشوارك الأكاديمي والسياسي ؟
كانت النشأة فيها الكثير الذى نتوقف عنه لاستخلاص الدروس ، ولدت فى قرية ميت العز محافظة الدقهلية وهى اشبه بجزيرة محاطة بالمياه لذا تجدينى إنسان مسالم ومحب للحياة أحب أزرع حتى لو غيرى حصد ، ، بجانب فلاحة الأرض اشتغلت راعى للغنم وكان عمرى ست سنوات وكانت تجربة ثرية جدا ، أفادتني فى العمل السياسى العام من حيث قراءة أى مشهد بشكل صحيح والتحسب لأية احتمالات طارئة ..
· رغم نشأتك فى بيئة ريفية بسيطة وكفاحك مع الأسرة من أجل لقمة العيش ألا أن تنشئتك كانت غنية بالقيم الاجتماعية الإيجابية .. هل هذ أكبر درسا لمن يعلقون كل ما هو سلبى على شماعة الفقر والظروف؟
· هناك بيت للشاعر محمود أبو الوفا يقول : إن فى الإنسان طاقات اقتدار اه لو يدركها كيف تدار ، وأنا ولدت ونشأت فى ميت العز بين الفقراء ارعى الغنم و أزرع الأرض لم أكن فى هذا السن الصغير أدرك أبيات للشعر ، لكنني أدركت وجود الطاقة داخلى و أحسنت استخدامها ، وكل إنسان يحتاج أن يدرك هذه الطاقة ويوظفها ويعمل نقلة كبيرة فى حياته فالظروف لم تكن حائلا أمام تحقيق أهدافي .
· التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية رغم عشقك لدراسة الأدب الإنجليزي .. ما الذى جذبك نحو كلية الاقتصاد ؟
هناك علاقة جدلية بين الإرادة و القدر ، فالقدر لعب دور كبير فى الكثير من أمور حياتي ، لم أكن أخطط لدراسة الاقتصاد لأن كان حلمى حياتى أن أكون مدرس إنجليزى فكنت مبهور بالأدب الإنجليزي ، ويشاء القدر أن يتم الإعلان عن إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى نفس عام حصولى على الثانوية العامة ، وأجد نفسى التحق بهذه الكلية بدلا من الالتحاق بكلية الآداب ، وتخصصت فى الاقتصاد حيث وجدت فيه القاسم المشترك الأعظم لاهتماماتي .
· كان لك فرصة الالتقاء بالرئيس عبد الناصر مرتين لتكريمك فى عيد العلم ..حدثنى عن مشاعر الالتقاء بالرئيس عبد الناصر ولماذا صرحت فى كتابك”حكاية مصرية” أنه الزعيم الذى يشد على أيدي شباب مصر؟
تم تكريمي مرتين من الرئيس عبد الناصر فى عيد العلم ، المرة الأولى تكريمى لحصولى على المركز الثانى فى الثانوية العامة ، والثانية تكريمى لحصولى على المركز الأول على الكلية ، واتذكر الرئيس عبد الناصر وهو يتقدم الى المنصة لتكريم الأوائل تسارع ضربات قلبي عند سماع اسمي فى مقدمة المكرمين ، حالة من الانبهار بهيبة عبد الناصر وهو يقف أمامى شامخا ويشد على يدي يهنئني ويشجعنى لقد كانت لحظة مفعمة بكل الانفعالات والأحاسيس ، هذا هو الزعيم يشد على أيدي شباب مصر يشجعهم ويهنئهم ويحثهم على مزيد من العمل والعطاء ، وتلك هى عملية “صناعة البشر” .
· وماذا عن فترة الرئيس مبارك الذى قلت عنه فى كتابك “حكاية مصرية ” أنه لم يكن متحمسا للاحتفال بعيد العلم ؟ على الرغم من حصولك فى عهده على جائزة الدولة للتفوق فى العلوم الاجتماعية عام 2005؟
عبد الناصر حكم مصر 17 عاما وكان حريصا على حضور عيد العلم وتكريم المتفوقين كل عام ، مبارك حكم 30 عام لكنه لم يكن متحمسا للاحتفال بعيد العلم ، بل توقف فى عهده الاحتفال بهذه المناسبة ورغم حصولي على جائزة الدولة للتفوق فى العلوم الاجتماعية عام 2005 إلا أننى لم أحصل على الشهادة و ميدالية التكريم إلا عام 2014 دون أى احتفال .
· نأتى لمرحلة هامة فى حياتك الأكاديمية وهى استكمال دراساتك العليا من الخارج .. كما ذكرت فى كتابك “حكاية مصرية” حجم المعاناة التى تحملتها انت وزوجتك الدكتورة كريمة كريم من أجل استكمال الدراسة التى كانت تتطلب مصروفات عالية .. حدثني عن هذا التحدى و السبب وراء صمودكم ؟
تم اختيارى ممثلا لجامعة القاهرة لقضاء عام دراسي فى جامعة بريتش كولومبيا فى كندا تنفيذا لاتفاقية للتبادل الطلابى بين الجامعتين ، وسافرت بمفردى فى أغسطس سنة 1968 ثم لحقت بى زوجتى الدكتورة كريمة ، وكان الأمل معقود على المنحة التى ستحصل عليها لاستكمال دراستنا ، لكنها لم تحصل عليها بحجة إدعاء الاستاذ الصهيوني أنها لم تتقدم للمنحة فى الميعاد المحدد، ، وكان علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا وبسرعة واستبعدنا فكرة العودة الى مصر وقبلنا التحدي ، وكان علينا فورا البحث عن أى عمل حتى نعول أنفسنا وندفع مصروفات الدراسة ، والتحقت بوظيفة بائع كتب متجول ثم فى وظيفة مساعد بستانى ومن وظيفة الى وظيفة استطعنا استكمال الدراسة وتحقيق الهدف فى الحصول على الماجستير ثم الدكتوراة .
· بعد حصولك على الدكتوراه قررت العودة الى مصر رغم العروض التى قدمت لك بالعمل كمدرس بقسم الاقتصاد جامعة مكماستر بكندا والأمر كذلك بالنسبة للدكتورة كريمة كريم .. ماذا كان معيار الاختيار لديكما ؟
بعد حصولى على الدكتوراة جاءني عرضا للعمل كمدرس مساعد في قسم الاقتصاد بجامعة مكماستر بكندا ، كان عرضا سخيا وفرصة ذهبية فى بداية مشوارى العلمى والاكاديمى ، لكننى اعتذرت عن قبول العرض وفضلت العودة أنا وزوجتى لخدمة بلادي ، كان معيار الاختيار هو معيار خدمة الوطن.
“من الميدان الى الديوان”
“من الميدان الى الديوان” أحد مؤلفاتك الهامة التى توضح فيها خلاصة تجربتك السياسية خلال فترة ما بعد ثورة 25 يناير 2011 .. أريد أن أناقشك فيها :
· من ثورى يقف فى صفوف الثوار بميدان التحرير الى وزير يتولى كرسى السلطة بعد ثورة 25 يناير 2011 .. على الرغم من ذكرك الظروف التى جعلتك تقبل المنصب لماذا هذه النقلة فى حين يمكن أن تنقل هموم الفقراء وانت فى المعارضة؟
حينما طلب منى الانضمام الى الحكومة فى فبراير 2011 ، دارت مناقشات بينى وبين زوجتى وكان تقديرنا أننا عشنا طوال حياتنا نتحدث عن العدالة الاجتماعية ولا ننحاز إلا الى جانب الفقراء ولا يمكن أن يكون موقفنا الآن هو إعلاء مصلحتنا الخاصة على المصلحة العامة ، فلو فعلنا ، لكان ذلك خيانة للوطن، وفى النهاية اتفقنا على ضرورة قبولى للمنصب الوزاري المعروض على ، وتوليت وزارة التضامن الاجتماعى التى كانت تشمل وزارة التموين ووزارة الشئون الاجتماعية واقترحت أن تسمى وزارة التضامن والعدالة الاجتماعية تعبيرا عن مطالب الثورة .
· عارض الكثيرين انضمامك للحكومة واعتبره البعض نهاية غير موفقة لتاريخك السياسى .. لماذا دائما يترسخ فى الأذهان أن المنصب السياسى معناه خسارة للحرية الشخصية ؟ وكيف تصديت لهذا الجدل وقناعتك بصواب قرارك؟
اخذت القرار بقبول المنصب الوزاري أمام اعتراض الكثيرين من أصدقائى وزملائى فى حزب التجمع بل أقاربي ، الجميع اعتبر قبولى الوزارة نهاية غير موفقة لتاريخى السياسى ، بل إنهم قالوا إن جودة يبدد رأسماله السياسي ، وهناك من الأصدقاء من داعبنى قائلا : “مبروك عدمت عزوبيتك” تلميحا الى خسارتي لحريتى الشخصية ، وقد سارع البعض للإعلان عن رأيه فى الإعلام وهو ما أثار موجة من الجدل ، ولكنني امتنعت عن التعليق على أى أسئلة بخصوص موقف التجمع الرافض لقرارى وكان من الضروري أن أوضح لزملائي في الحزب أسباب قبولى للمنصب الوزارى .
· واجهت البيروقراطية القاتلة على حد وصفك فى كتابك و التى كانت ستحولك الى آلة توقيعات فقط وتصرفك عن هدفك الأساسي خدمة المواطنين.. كيف تغلبت عليها ؟
فى أول يوم لى فى وزارة التموين ، طلبت منى مديرة المكتب أن أوقع على رصة كبيرة من الأوراق والملفات ، أصابني ذهول شديد وأشفقت على نفسى من مصير يمكن أن تسحبني فيه دوامة البيروقراطية فلا أستطيع عمل أى شيء ذي قيمة ، وبناء عليه أصدرت قرارا وزاريا بالتفويض للمستويات الأدنى ، فبعد أن كان الأمر مركزا فى يد شخص واحد هو الوزير ، تم نقل المسؤولية الى 27 شخصا هم وكلاء الوزارة على مستوى المحافظات بحيث أتفرغ لوضع السياسات بدلا من الانشغال بالتوقيعات .
· القمح وهو قوت الناس الغلابة الذى يصنع منه رغيف العيش .. لماذا دائما فى رأيك يتم التلاعب بهذا الورقة؟
مصر أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم وبالتالى العيون على مصر من الجهات التى تريد بيع القمح وتسعى للتأثير على الوضع بكل الوسائل .
· فى كتابك وضحت مجموعة من الإجراءات الجادة من أجل القضاء على مشكلة القمح قرارك بجعل استيراد القمح من اختصاص الهيئة العامة للسلع التموينية …هل ترى أن هناك ضرورة قصوى فى سرعة إتخاذ القرارات التى تمس قوت الشعب ؟
بعد شهر واحد من دخولى الوزارة اتخذت قرار جعل استيراد القمح من اختصاص الهيئة العامة للسلع التموينية ، لم يكن قرارا سهلا على الإطلاق ، فقد كانت الشركات الخاصة التى كانت تستورد القمح وتقوم ببيعه الى الحكومة بالجنيه وتحقق أرباحا طائلة على حساب المال العام والشعب الغلبان ، كانوا على استعداد لمقاومة هذا القرار أيا كان الثمن ، لذلك اتخذ القرار بطريقة سرية بحيث لم تترك لأباطرة القمح فرصة للمناورة لمنع صدور القرار أو لإفشاله بعد صدوره ، ولعل سرعة اتخاذ القرار بعد شهر واحد من دخولي الوزارة كان عاملا حاسما ، لقد كان هذا القرار صعبا ، وينطوي على مخاطر كبيرة لكن المصلحة العامة اقتضت اتخاذه.
· عارضت بشدة ترتيب خطوات الانتقال كما حددها الإعلان الدستوري حيث رفضت تأجيل كتابة الدستور لما بعد الانتخابات الرئاسية ، هل كنت تتوقع أن جماعة الإخوان المسلمين ستحقق الفوز فى الانتخابات وبالتالى سرقة الثورة أو الاختطاف الأول على حد تعبيرك ؟
كنت ومازلت أعتقد أن المجلس العسكرى أرتكب خطأ استراتيجيا حينما أصدر الإعلان الدستورى فى فبراير 2011 الذى نص على أن خارطة الطريق هى أن يسلم الحكم للمدنيين من خلال انتخابات رئاسية ثم برلمانية ثم كتابة الدستور ، طالبت بضرورة كتابة الدستور قبل إجراء الانتخابات الرئاسية لتحديد ما هو الحكم المدني وتحديد سلطات رئيس الجمهورية وغيرها ، ولكن لم يتم الانصياع لرأيى ، وتم إجراء انتخابات رئاسية وكان الفصيل السياسى الجاهز لخوض الانتخابات هو الإخوان وكان هذا الاختطاف الأول للثورة.
· وهل لو تم الاستجابة لرأيك فى ذلك الوقت كانت الأمور ستختلف تماما ؟
أعتقد أنه لو تم الاستجابة لرأيى كتابة الدستور أولا كان الحديث عن دولة مدنية يجد ترجمة له فى مواد الدستور وبالتالى عندما تجرى انتخابات رئاسية ستتم وفقا لقواعد الدستور وبالتالي إعطاء فرصة للقوى السياسية التى خرجت مع الثورة على تنظيم نفسها
· قبل ثورة 25 يناير كنت تدافع عن حق جماعة الإخوان فى الاشتراك فى العملية السياسية بشرط قبول قواعدها ، بعد الثورة و توليك الوزارة زادت حدة التوتر بينكم خاصة مع تقلدهم مقاعد النواب والشيوخ .. حدثني عن هذا الاختلاف ؟
بالفعل كفصيل سياسى كنت أرى أن من حقهم الاشتراك فى العملية السياسية بشرط قبول قواعدها التى تتمثل فى التعددية وتداول السلطة والفصل بين الدين والسياسة ، الصدام مع الإخوان كان لسببين الأول عقائدي وهو أننى رجل يساري وفى قاموسهم أن اليسارى ملحد ، الثاني أنا كنت الوزير الذى يدافع عن قوت الشعب بينما هم يستغلون الحصانة البرلمانية لممارسة كل أعمال مص دم الشعب وبرداء دينى مغلف ، أنا قررت أن لا أدير ظهرى لهذه المسألة رغم صعوبة الوضع فهم أغلبية ساحقة فى البرلمان ومعهم الرئيس ، وأنا فى تقديرى رغم إبعاد الإخوان عن العملية السياسية ألا أنهم مازالوا فى جذور الكثير من المجالات على سبيل المثال كثير من المدارس مملوكة للإخوان وكثير من المدرسين لديهم فكر الإخوان ، الأمر الذى يحتاج الى أسلوب أخر فى التعامل معهم غير الأسلوب الأمنى حتى لا يتحول الاحتقان الى نوع من التوتر الاجتماعى والسياسى .
· لكن لماذا طلب منك الإخوان الاستمرار فى تولى وزارة التموين ؟
قد يكون لسببين الأول فى ظروف معينة قد يحتاج الإنسان الى ورقة توت تستر العورة ، أنهم يرتكبون الكثير من الأخطاء ، وأن شخص بمواصفاتى الناس لما تشوفه هتطمئن لحكمهم ، ثانيا ربما بسبب الكفاءة التى أظهرتها فى التعامل مع الملف فى ظروف صعبة جدا .
· بعد ثورة 30 يونيو 2013 ذكرت أن ثورة يناير دخلت مرحلة الاختطاف الثانية .. ماذا تقصد؟
· الحكومات المتعاقبة من بعد 2013 ، كلها نسخة جديدة من الحزب الوطنى الديمقراطى وهناك اثنين من أهم الأحزاب الداعمة للرئيس فى الانتخابات الرئاسية حزب مستقبل وطن وحزب حماة الوطن .
“التثبيت والتكيف فى مصر”
· فى مؤلفك “التثبيت والتكيف فى مصر” .. وضحت أنك مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى لكن تعارض طريقة تطبيقه أفهم من هذا أن هناك أخطاء وقعت أثناء تطبيق البرنامج؟
من أجل مواجهة الظروف الاقتصادية لجأت مصر منذ أوائل التسعينات الى عقد الاتفاقات مع كل من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى حول حزمة للتثبيت والتكيف الهيكلي عرف ببرنامج الإصلاح الاقتصادى ، و الفكرة فى هذه البرامج هو تبعيتها لهذه المؤسسات و تتلخص فى الآتى أولا : أن كل شىء فى الداخل يجب أن يتوافق مع معطيات السوق العالمى ، ثانيا : من الناحية الأيديولوجية هى ضد تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى ومع القطاع الخاص وهو ما يسمى “توافق واشنطن” ، وبالتالى حاولت فى هذه الدراسة أن أناقش كرجل اقتصاد هذه الحزمة من الإجراءات وما انتهت إليه على أرض الواقع ، و أن هناك نتائج شديدة الضرر على المجتمع وعلى الاقتصاد من هذه الإجراءات .
· إصلاح أم إهدار للتصنيع .. ما الآثار السلبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي على التصنيع ولماذا ركزت على صناعتي الحديد والصلب والألومنيوم فى هذه الدراسة ؟
نعم إهدار للتصنيع ، تقريبا كل الصناعات المصرية تعتمد على مستلزمات مستوردة من الخارج ، ومع تخفيض الجنيه المصرى ، تكلفة هذه المستلزمات ترتفع وبالتالى تكلفة الإنتاج ترتفع ، أما اختيارى على وجه التحديد لصناعتى الحديد والصلب والألمونيوم لأنها كثيفة الطاقة أى تحتاج الى الكهرباء ، لأن البنك الدولى اقترح أن نعتمد الأسعار العالمية للطاقة وبالتالي نلغى سعر الطاقة المدعم فى مصر ، بالتالى أى زيادة فى أسعار الكهرباء ستؤدى الى زيادة مماثلة فى تكلفة إنتاج الوحدة فى هذه الصناعات.
· ولكن ما الإجراءات التى من المفترض أن تتخذها الدولة ؟
فى رأيى أنه من الحكمة والأهمية ومراعاة للأمن الاجتماعى ، لابد من الابتعاد عن تعويم الجنيه ولا أسير وراء صندوق النقد الدولى ، نحن أمام صراع بين قوتين قوة مصر وقوة صندوق النقد الدولى ، وأى تغيير فى سعر الصرف مباشرة يترجم فى الأسعار الداخلية ، وهنا لابد الإشارة الى أن الرغبة فى الاستهلاك أصبحت محمومة ، الواردات حاليا حوالى 60 او 70 مليار دولار ، فى حين الصادرات نصف هذا المبلغ .
· هل كل ما نستورده من الخارج ضرورى ؟
لا طبعا ، نحن نستورد منتجات ليس لها أى ضرورة ، وأصبح هناك ظاهرة شاذة وغريبة هى أن أى شخص ممكن يستورد دون ضوابط ، هذا ضد منطق التجارة الخارجية ، وبالتالى لابد من وضع ضوابط تحدد من له الحق ان يدخل السوق ، ثم تأتي الرقابة ومجازاة من يعمل بدون ترخيص ، والمطلوب قبل التعويم أن أعمل إعادة تنظيم للتجارة الخارجية .
· كيف تهتم الدولة بعملية التصنيع والإنتاج المحلى بحيث يقل الاستيراد من الخارج ؟
بالنسبة للانتاج الزراعى ، هناك مجموعة من الإجراءات السريعة ، يمكن تطبيقها وينتج عنها نتائج ملموسة ، أولا أن يعطى سعر تحفيزى للفلاح ويعلن السعر قبل اتخاذ قرار الزراعة لتشجيعه على الإنتاج ، ويروج فى كل وسائل الإعلام ، ، أيضا لابد من تطبيق نظام الدورة الزراعية أى تحديد ما يتم زراعته من محاصيل قبل وبعد زراعة القمح وهو الأمر الذى يقتضيه زراعة القمح فضلا عن وضع مجموعة من العقوبات الرادعة لمحاسبة المخالف .
أما الإنتاج الصناعي لابد من وضع سياسة صناعية تحدد ما هى الصناعات التى من المفترض الخروج منها مثل صناعة السيارات ، والصناعات التى يجب الدخول فيها مثل الصناعات الكيماوية ، لدينا أيضا مجال الغاز الطبيعي الذى يتم إهداره ، في حين أن الدراسات الاقتصادية تؤكد إمكانية تحويل الغاز الى منتجات صناعية وبالتالي الحصول على أضعاف القيمة.
· لماذا لا تعقد الدولة النية لتنفيذ مثل هذه الإجراءات ؟
المسألة ليست مسألة نية بل هى إرادة سياسية ، لابد أن ندرك أننا أمام لعبة دولية معقدة جدا والحكومة المصرية ليست هي اللاعب الوحيد فى هذه اللعبة ، لعبة سياسة دولية من الدرجة الأولى ، هذه السياسة يهمها أن مصر لا تنتج القمح والأمريكان غضبوا لما قلنا نخلط القمح بالذرة فى إنتاج رغيف العيش المدعم ، هناك حلف مقدس بين الأجانب البائعين للقمح والمصريين المشترين للقمح على أن مصر تظل فى هذا الوضع ولذا يحتاج الأمر الى إرادة سياسية الموضوع مش صعب ، علينا أن نعقد الإرادة فى التخلص من التبعية للخارج فى مجال القمح .
الحوار الوطنى
· وأنت عضو مجلس أمناء الحوار الوطني كيف ترى مخرجات الحوار الوطنى أو بمعنى أخر هل يجد صدى على أرض الواقع من حيث التنفيذ ؟
اتمنى أن تستأنف جلسات الحوار بأسرع وقت ممكن ، فما زال هناك قضايا تحتاج للمناقشة ونتمنى بالنسبة للاقتصاد أن التوصيات التى سينتهي إليها الحوار الوطنى تجد طريقها الى حيز التنفيذ ولا تصطدم مع مجموعات المصالح، وأن يكون متخذ القرار مدرك الوضع جيدا أننا فى حاجة الى سياسة صناعية تضع ضوابط لمن له الحق فى دخول السوق ، لأن الآن أصبح من السهولة لأى شخص أن يسافر للخارج ويتعاقد على سلع ويجيبها على حاويات ، أيضا لابد من النظر بجدية لملف المحليات ونقطة التحول هو التشريع ، ولدينا مشروع قانون للمحليات مجمد لدى الحكومة من المجلس المحلى للمحافظة ، ويحتوى على جزئية هامة وهى أن يتولى المحافظ منصبه بالانتخاب لأنه سيكون مسئولا سياسيا أمام شعبه.
· وأنت من المعارضة كيف ترى حال أحزاب المعارضة؟
الأحزاب هى نتاج بيئة سياسية إذا كانت هذه البيئة حاضنة تترعرع الأحزاب وتقوى والعكس صحيح ، وأنا فى رأيى أن البيئة غير حاضنة للأحزاب وتحتاج للإصلاح ، وهذا دور الحوار الوطنى أن يصلح المعوج فى الحياة السياسية ونحن فى حاجة الى تغيير منظومة القوانين منها قانون التظاهر ، قانون تقسيم الدوائر الانتخابية ، قانون انتخابات مجلس النواب ، هذه ضمن ضمن القضايا التى تحدثنا عنها فى الحوار الوطنى ، ولكن التغيير لا يحدث فى يوم وليلة لابد أن نتحمل تضحيات لحدوث نقلة .
· ما يتم ترجمته على أرض الواقع من توصيات الحوار الوطني دليل على نجاح المعارضة؟
الى حد ما نحن مجتمع لا توجد فيه تنشئة سياسية لرموز المعارضة ، فى الحوار الوطنى أشخاص تطرح نفسها على أنها تمثل أحزاب المعارضة ، ولكن يحدث انقسام مع أول اختبار ، وهذا نتيجة قلة الممارسة السياسية وقلة التدريب السياسي .
مقالاته
· فى مقالك “بلاش تزودولنا الدخول .. اضبطولنا الأسعار” .. هل ترى أن الحكومة لها اليد العليا فى ضبط الأسعار أم من ؟ ولماذا كل زيادة فى الدخول يقابلها زيادة فى الأسعار؟
خرافة ما يسمى اقتصاد السوق الحر ليس معناه رفع يد الحكومة عن ضبط الأسعار ، إنما الفكرة أن الحكومة أصبحت تسير طبقا لأهداف التجار فى الداخل والخارج ، ليس هناك سوق حر إنما هناك سوق بضوابط ، ولكى يتم ضبط الأسعار لابد أولا تنظيم السوق ووضع قواعد تحدد من له الحق العمل فى السوق ، لدينا الاتحاد العام للغرف التجارية ، هو المسئول أن يرخص لمن يعمل فى التجارة ، وللأسف فكرة السجل التجارى غير مطبقة ، أيضا لابد من وجود عقوبات يتم فرضها على المخالف ، لأن المتعارف عليه هو وجود عقوبات مالية متمثلة فى دفع غرامة مالية وليست عقوبات جنائية، وأنا طالبت بإقرار عقوبة الإعدام على بعض الجرائم ، فنحن فى حاجة الى مراجعة العقوبات ، بعد عملية تنظيم السوق ثم وضع عقوبات تأتي الإجراءات الاقتصادية أن السيولة التى مع الناس تتناسب مع السلع المتاحة.
· فى مقالك “عفوا سيادة الرئيس .. بل حكومتكم سبب أزماتنا” .. ذكرت أن السياسات التى طبقتها الحكومات المتعاقبة خلال العشر سنوات الماضية كانت السبب فيما نعاني منه .. هل ترى أن الدولة انشغلت بمشروعات كثيرة جاءت على حساب الاهتمام بالإنتاج الزراعى والصناعى ؟
الدولة تحتاج الى مراجعة سياساتها ، هناك مشاريع فى رأيى ليس لها جدوى مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة كتبت أربع مرات ضد المشروع على إنه إهدار للمال العام و أن التبرير بأنه خلق فرص عمل أمر ليس فى محله فهي فرص عمل مؤقتة تنتهي بانتهاء المشروع ، المشاريع الحقيقية فى قطاعات الإنتاج و بالتحديد فى قطاع الزراعة والصناعة ، الناس متصورة أن الزراعة موضة قديمة لكن لا يبنى أى اقتصاد ألا على قطاع زراعي قوى .
· تسألت في نهاية مقالك هذا هل يكون جنون الأسعار مقدمة لثورة جياع؟ … هل معنى ذلك أن الدولة ستترك الأمر على الغارب لجشع التجار أم ستتولى القبضة الحديدية على الأسواق ؟
لقد تراجعنا عن موضوع خلط الذرة بالقمح فى إنتاج العيش البلدى ، وهذا يطرح قضية اخرى هو الدعم المادي والدعم العيني ، وبدلا من أن يحصل المواطن على دعم عينى متمثل فى سلع تموينية يحصل على دعم مادى ، وهذا يتحقق نجاحه عندما يكون للحكومة سيطرة على الأسعار ، وأخشى أن يتحول هذا الى رغيف الخبز لأن لو حدث هذا سيترتب عليه ثورة جياع ، والدستور ينص على أن من حقوق المواطن حصوله على طعام كافى وآمن ، بصراحة الحكومة فى حاجة الى إظهار العين الحمراء للمتلاعبين بأقوات الشعب ولكن قد يكون هناك نوع من سوء التقدير للموقف .
· هل المواطن له دور فى عملية ضبط الأسعار بجانب الحكومة ؟ مثلا ما رأيك فى المقاطعة كآلية للضغط على التجار؟
المقاطعة تفيد فى بعض السلع التى لها بدائل مثل اللحوم ، لكن نحن نتكلم عن أسعار كل شىء ، و لا يوجد منطق يقول أننا نقاطع كل السلع ، فالمقاطعة هنا لابد أن تستخدم فى سياقها الصحيح على سلعة معينة وليس كل السلع ، لا يمكن تحميل المواطن ما لا طاقة له وهذه هى القشة التى قسمت ظهر البعير ، فالرهان على المواطن المصرى فى حدود .
نوتة تعارف
ولد الدكتور جودة عبد الخالق فى قرية ميت غمر محافظة الدقهلية عام 1942 ، من أسرة ريفية بسيطة ، التحق بمدرسة محمد فريد الثانوية بشبرا وحصل على المركز الثانى فى شهادة الثانوية العامة عام 1960، التحق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة وحصل على البكالوريوس بتفوق عام 1964 وتم تعينه معيد بالكلية ، تزوج من الدكتورة كريمة كريم أستاذ الاقتصاد جامعة الأزهر ، حصل على الماجستير ثم الدكتوراه من كندا ، رفض العمل بالتدريس هناك وفضل العودة الى مصر، هو أحد مؤسسي حزب التجمع .
تولى العديد من المناصب منها أستاذ للاقتصاد بجامعة القاهرة ، وزيرا للتضامن الاجتماعى والعدالة ووزيرا للتموين ، عمل خبيرا بالبنك المركزي ومستشارا لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية ولعدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة ، كما عمل أستاذًا زائرًا في عدد من الجامعات العربية والأجنبية .
له العديد من المؤلفات والبحوث نذكر منها “الصناعة والتصنيع في مصر”عام 2005، “الانفتاح: الجذور- الحصاد – المستقبل” عام 1982، “الانعكاسات الاقتصادية للغزو العراقي للكويت من المنظور الإستراتيجي” عام 1991، “الإصلاح الاقتصادي وأثاره التوزيعية” عام 1994 ، “التثبيت والتكيف الهيكلي في مصر وإنجلترا” عام 2001 ، “حكاية مصرية” عام 2018 ، “من الميدان الى الديوان” عام 2020 ،
كما تولى الإشراف على العديد من الرسائل العلمية لدرجتى الماجستير والدكتوراه بالجامعات المصرية، ودرجة الزمالة بأكاديمية ناصر العسكرية العليا ،
حصل على العديد من التكريمات منها تكريمه مرتين فى عيد العلم في عهد الرئيس عبد الناصر المرة الأولى لتفوقه في الثانوية العامة عام 1960 والثانية لحصوله على المركز الأول على الدفعة بكلية الاقتصاد عام 1964 ، حصل على جائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية عام 2005 ، جائزة النيل في العلوم الاجتماعية، عام 2020.