منذ اندلاع المعارك في غزة علي أثر ضربة الفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي وما تلاها من طوفان العمليات العسكرية الإسرائيلية الانتقامية علي الفلسطينيين العزل في قطاع غزة, تلك العمليات التي روعت الضمير العالمي وأطاحت بكل المعايير الإنسانية والقانون الدولي, أطلقت في مصر -وكثير من دول العالم- دعوات للمقاومة السلمية تجاه سياسات إسرائيل الشيطانية بالمقاطعة الشعبية لمنتجات إسرائيل ولسائر منتجات الشركات العالمية التي تدعم إسرائيل -سواء كان ذلك دعما ماليا مباشرا أو في صورة تحويل نسب مئوية من أرباحها إلي إسرائيل- وقد لاقت هذه الدعوات قبولا واسعا في الشارع المصري ترجم تعاطفا عميقا مع مأساة الفلسطينيين, وإدراكا واعيا أنه إذا كانت الحسابات السياسية والدبلوماسية والعسكرية للقيادة المصرية تملي توازنات حذرة وحكيمة تحول دون المواجهة أو المقاطعة الرسمية -وهي حسابات يمليها صالح الأمن القومي المصري- فعلي الأقل تقع مسئولية عقاب إسرائيل ورفض انفلاتها علي الشارع عن طريق سائر أشكال المقاطعة التي يطلق عليها المقاومة السلبية.
في بداية انطلاق دعوات المقاطعة الشعبية ضد إسرائيل من جانب الشارع المصري انصب الأمر علي مقاطعة مجموعة غير قليلة من المنتجات الاستهلاكية ذائعة الصيت من مأكولات ومشروبات تنتسب إلي سلاسل عالمية وعلامات تجارية شهيرة متهمة بدعم ومساعدة إسرائيل, وسرت في الشارع المصري أصوات معارضة لذلك تقول إن المقاطعة هي في الحقيقة موجهة نحو شركات مصرية تعمل بها عمالة مصرية, فإذا كانت تحمل تراخيص من السلاسل الأجنبية العالمية التي تسوق منتجاتها فالأمر مقصور علي حصول تلك السلاسل علي نسب ليست كبيرة من أرباح الشركات المصرية, فيكون الضرر الناتج عن المقاطعة واقعا علي استثمارات مصرية وطاردا لمئات الألوف من العاملين المصريين من سوق العمل إلي مستنقع البطالة.
في مقابل ذلك استمر زخم دعوات المقاطعة, والحقيقة أنها نالت تأييدا ملحوظا من المواطنين المصريين -الأمر الذي عكسته سائر وسائط التواصل الاجتماعي- مما عكس الحس الوطني المرهف للشارع المصري ونفوره المتنامي من استهلاك المنتجات المشار إليها والمطلوب مقاطعتها… وهنا تصدي الكثيرون من الكتاب والمفكرين لتحليل الأمر, حيث ظهر بشكل جلي انحيازهم لمبدأ المقاطعة الشعبية وتفنيدهم للإيجابيات والسلبيات الناتجة عنها, حيث تجاوزت الإيجابيات السلبيات وأعطت تبريرا قويا لصالح المقاطعة… ودعوني هنا أسترجع بعضا مما سطره قلم المفكر والكاتب الأستاذ محمد سلماوي في عموده المنشور في صحيفة الأهرام خلال شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين, لأنه يحمل وجهات نظر جديرة بالأخذ في الاعتبار عند ترجيح جانب تأييد المقاطعة في مقابل التحذير من مغبتها.
** أنا أقاطع لأن المعارك لا تكون بالبنادق وحدها وإنما أيضا بالمال وبالدعم والتأييد في الإعلام والمحافل السياسية, وإسرائيل لا تعيش فقط علي دخلها وإنما أيضا علي المعونات التي تأتيها من الحكومات ومن التبرعات الأهلية والشركات الكبري, (وذكر الكاتب مجموعة كبيرة من الشركات والعلامات التجارية الداعمة لإسرائيل والتي توجد لها فروع في مصر تحمل علاماتها وتروج منتجاتها), فإذا كانت فروع تلك الشركات العاملة في مصر مملوكة لرؤوس أموال مصرية لماذا لا تقوم بالتبرع لحقن دماء الفلسطينيين التي تسال الآن في الشوارع ولدعمهم بشتي أنواع المساعدات الإنسانية والإغاثة؟
** أثبت الشعب المصري أنه أكثر نضجا وأكثر انتماء وأكثر شعورا بالمسئولية ممن يعارضون دعاوي المقاطعة, ويواصل مقاطعة المنتجات الأجنبية للشركات والعلامات التجارية التي تدعم إسرائيل, وعندما يسوق معارضو المقاطعة الحجة البالية أن هذه المقاطعة إنما هي موجهة ضد منتج مصري يصنع في مصر بأيدي عاملين مصريين, فإنهم ينزلقون في مغالطة كبري, ففي مقابل حمل تلك الشركات علامات تجارية أجنبية هي تلتزم بتحويل نسبة من أرباحها إلي الشركات الأم في الخارج وذلك يساهم في التبرعات والدعم الذي تقدمه الشركات الأم لإسرائيل.. كما أن ادعاءهم بأن المقاطعة من شأنها غلق بيوت المصريين العاملين بهذه الشركات في مصر مردود عليه بأن الفرص متاحة والأبواب مفتوحة للانتقال إلي المنتج المصري وإلي تشجيع الصناعة الوطنية بما يستوعب تلك العمالة… (واسمحوا لي في هذا الصدد أن أضيف أن لنا بجانب المنتج المصري أسوة حسنة في المنتج السوري الذي انطلق ويكسب كل يوم مساحات كبيرة مرحبا بها من المستهلك المصري).
** لسنا وحدنا في مصر الذين نتصدي لمقاطعة إسرائيل والشركات الداعمة لها, فالجدير بالذكر أنه منذ عام 2005 انتشرت حركة منظمة في أمريكا والدول الأوروبية تدعو لمقاطعة منتجات إسرائيل في المجالات الاقتصادية والرياضية والثقافية والأكاديمية والشركات الدولية المتواطئة معها في انتهاكاتها المستمرة لحقوق الفلسطينيين وارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق الشعب الفلسطيني طوال أكثر من سبعين عاما حتي الآن… وذلك شكل من المقاطعة الدولية الجدير بالتسجيل.
** في مجال الحديث عن مقاطعة الشركات العالمية, الأمر لا يخلو من شركات منتجة للسيارات والمعدات الهندسية تدعم إسرائيل بينما يتم ترويج منتجاتها في مصر, بالإضافة إلي بعض البنوك الأجنبية التي تمتلك أسهما في مصانع إسرائيلية للأسلحة التي تستخدم في العمليات الدموية ضد الفلسطينيين, ولا يستقيم استمرار التعامل معها في السوق المصرية لمجرد الجهل بذلك الدور الذي تلعبه بكامل العلم والدراية والمنزه عن أي جهل أو غفلة.
*** تبقي ملاحظة أخيرة أود إضافتها من جانبي بعدما أوردت ما سطره قلم الأستاذ محمد سلماوي, وهي أنه في مجال إنجاح جهود المقاطعة وعدم تعثرها أمام مقولة قصور المنتج المصري عن الوفاء بمواصفات المنتج الأجنبي الواجب مقاطعته, وذلك تبين للمتابعين في بعض المجالات الصيدلية والطبية, أنه يقع علي عاتق الصناعة المصرية تقديم البديل المنافس للمنتج موضوع المقاطعة لتشجيع وإقناع المستهلك المصري علي سلوك مسار المقاطعة واستيفاء احتياجه عبر منتج آخر مكافئ.
*** لا أترك ملف جدلية المقاطعة قبل أن أستثمر النجاح التراكمي الذي تحققه المقاطعة في الشارع المصري والتي فجرتها دعوة مقاطعة ما يدعم إسرائيل, وذلك لأخوض في مجال آخر علي درجة عظيمة من الأهمية علي الساحة المصرية… فبينما أنا فخور بدرجة تفاعل المصريين مع دعوي مقاطعة كل ما يدعم إسرائيل وما أفرزته من تكتل ومؤازرة وعمل جماعي مؤمن بالهدف الوطني… أتساءل: لماذا إذا لا نستكشف سبل إعادة توجيه هذا الزخم لخدمة ثقافة المقاطعة الشعبية لظاهرة انفلات الأسعار في السوق المصرية؟… وهذا ملف ملح سوف أتعرض له في المقال المقبل بإذن الله.