في اليوم السادس عشر من يوليو 1946, وفي الطرف الشرقي من جزيرة ساتورنا بكلومبيا البريطانية, غطس رجل في الثامنة والثلاثين من عمره في مياه البحر ومعه بندقية صيد تحت الماء, في حين أحاطته أعداد من الأسماك المتوحشة في المياه الداكنة, وكان غرض الرجل أن يقتل حوتا من النوع الذي يقتل, والذي يسمي بالحوت القاتل, وعمل نموذج منه لمتحف الأحياء المائية في مدينة فانكوفر.
والحوت القاتل (أودكينوس أردكا), من الثدييات الذكية الخطيرة, أعتي من حوت يونس وأكثر منه دهاء. وكان الرجل ويدعي سام بوريك محظوظا, لأنه عندما أطلق بندقيته أصاب الهدف, فظهر خيط من النايلون, وإذا بالحوت متعلق به وهو حي لم يمت.. وأسرع سام إلي مركب خفيف به معاونه فتسلقه لاقتناص الحوت قبل أن يفلت منه.. وقفز الحوت قفزة رائعة محاولا التخلص من السهم الذي أطلق عليه, وكان طول الحوت أكثر من خمسة أمتار, وفي اللحظة التي صوب فيها سهام بندقيته علي الحوت الذي يزيد أكثر من ثلاثة آلاف رطل, نظر الحوت إليه مباشرة في عينيه فتراجع الرجل ولم يجرؤ علي تسديد الضربة إليه.. وبدلا من أن يقضي علي الحوت النادر اتصل لاسلكيا بمدينة فانكوفر وطلب إلي المسئولين أن يعاونوه علي اقتناص الحوت القاتل حيا, وبذلك ظهرت اسطورة جديدة بعد حادثة ابتلاع الحوت ليونان, وصدرت الجرائد في جميع انحاء العالم وبها أخبار الحوت القاتل العنيد, تحتل أبرز الأمكنة لمدة طويلة من الزمن.
وفي الحال, التقط معهد الأحياء المائية رسالة سام فطار علي الفور إلي الجزيرة العالم المعروف دكتور موراي نيومان, وكان العالم مبتهجا لهذه المغامرة الجريئة, فقد أمكن الإنسان أن يصطاد حوتا قاتلا حيا لم يبق علي قيد الحياة بعد اقتناصه غير خمسة وثمانين يوما!!
وكان العالم أثناء رحلته المفاجئة إلي الجزيرة يفكر في أمر الحوت القاتل, ويعرف أنه من النوع القاتل السفاح الذي لا يرحم ضحيته, فكم حوت من هذا النوع قلب وأغرق المراكب الضخمة وحطمها تحطيما بقسوة وضراوة وحب تنكيل..
ولكن عندما وصل العالم إلي الجزيرة دهش عندما رأي الحوت يسبح في اطمئنان وهدوء علي غير عادة, فطلب إلي سام بوريك أن يسحبه إلي فانكوفر بمركبه أو قاربه, وكانت تبعد عن الجزيرة بنحو أربعين ميلا.. وسحب الرجل الحوت الضخم إلي حوض جاف في ميناء فانكوفر في رحلة استغرقت 17 ساعةكان يتوقف خلالها حتي يستريح الحوت بعض الوقت ثم يواصل رحلته. وهناك استقبله الألوف من الناس ليلقوا نظرة علي الصيد الضخم, وكان العالم نيومان قد سبقهم إلي هناك وأحضر معه مجموعة من الأطباء لتضميد جراح الحوت وإسعافه. وعند وصول الحوت إلي الحوض الجاف وضع بعناية في صندوق كبير, وسرعان ما هبط إليه عالمان من علماء الأحياء وأزالوا السهم والخيط النايلون القوي ثم حقناه بكمية كبيرة من البنسلين, وظن أحدالعالمين أن الحوت أنثي فأطلق عليها اسم (موبي دول) أي العروس موبي.
أثار اقتناص الحوت اهتمام العلماء في العالم كله, فسافر إليه عدد كبير منهم لقياس درجة ذكائه وصوته والطريقة التي يعمد إليها عندما يريد أن يجعل ضحيته تتجه نحو طوعا واختيارا بما يصدره من أصوات لها رجع الصدي والأثر المباشر علي أية ضحية, وعندما عرض الحوت علي الجمهور رآه في أول يوم أكثر من 15000 شخص, واعتاد الرجل الذي اصطاد الحوت أن يذهب إليه كل يوم يحاول أن يكسب صداقته بأي ثمن, فكان يقدم له الطعام, ولكن الحوت أبي أن يأكل شيئا مما قدمه له الرجل.
وفكر العلماء أن ينقلوه إلي البحر فتطوع عدد من الضفادع البشرية لبناء مسكن خاص لموبي دول في خليج بحري حتي لا يسأم الحياة ويعيش عيشة طبيعية, بحيث لا يغادر المسكن أو العرين أبدا.. واستغرق بناء المسكن الخاص عدة أيام.. ورغم أن الحوت شفي تماما من جروحه إلا أنه امتنع عن الطعام ودأبت صحف فانكوفر علي نشر أخبار الحوت مع نشرة خاصة عن صحته كل يوم, واحتار العلماء والناس في أمر الحوت الصائم الزاهد في الدنيا الساخط علي قسوة الإنسان, فاضطر العلماء إلي حقنه بالفيتامينات وتقديم لحوم الخيل والسالمون والأخطبوط إليه, ومع ذلك امتنع الحوت عن الطعام وأضرب عنه تماما..
وبعدر أسابيع جاءه عدد من أعظم علماء هذا العصر, وعلي رأسهم العالم المشهور وليم شيفيل, الذي يجيد مخاطبة الحيتان ويفهم لغتها.. وبعد تسجيله لحركات الحوت في عرينه الجديد, قال إن جهازه الصوتي سليم وسوف يعود إلي طبيعته في يوم قريب. وبعد أيام بدأ الحوت يهز ذيله ويعبث بالماء, فألقوا إليه سمكة فابتلعها في الحال.. وصفق الحاضرون كثيرا لهذه الحادثة أو المعجزة فقد أكل الحوت لأول مرة بعد انقضاء خمسة وخمسين يوما! وتصدرت الحادثة الصفحات الأولي من الجرائد في العالم, وبدأ الحوت يأكل بانتظام ويتناول مائة رطل من الأسماك كل يوم.. بل ولم يكتف الحوت بالأكل, بل كان يقترب من حراسه كل يوم, وذات يوم ناداه أحد الحراس ليحصل علي طعامه أو غذائه وذلك بضرب صفحة الماء بسمكة ضخمة وفي لمح البصر كان الحوت يتقدم بسرعة نفاثة نحو الحارس ويفتح فمه الضخم ويتناول السمكة من يد حارسه. وفي المرة الثانية رفع الحارس السمكة في الهواء يدعو الحوت إلي القفز لينالها فسرعان ما غطس الحوت ثم قفز قفزة رائعة وتناول السمكة من ذيلها.. وفي مرة أخري قدم له الحارس سمكة من نوع سمك الصخور البرتقالي اللون فقبض عليها الحوت من ذيلها ثم لفظها فقطع الحارس زعانفها وأعادها إلي الحوت فالتهمها علي الفور.. وكان في ذلك توجيها من الحوت إلي الحارس أن ينظف السمكة من زعانفها قبل أن يقدمها إليه..
ومرت الأيام وأبدي الحوت من ضروب المهارة الشيء الكثير, فعندما كانت تطلق أصوات الحيتان القاتلة من جهاز تسجيل, كانت تعتري موبي دول حالة من القلق والاضطراب ثم يهدأ في آخر الأمر. وذات يوم هبط إليه حارسه في قفص من الحديد ليراقبه تحت الماء, وعندما أدار له ظهره, اتجه نحوه الحوت ووكزه لينبهه إلي وجوده ثم انطلق بعيدا عنه…
وأصبح الحوت بعد مرور الوقت مستأنسا, فكان العلماء يهبطون إليه في الماء علي قوارب مكشوفة, وعلمه أحدهم كيف ينقلب علي ظهره فيحك بطنه بفرشاة خشنة تجلب له السرور وطارت شهرة الحوت, وفي أحد البرامج التليفزيونية سمع الملايين صوت الحوت, وعرض الفيلم في أربع وأربعين دولة.
وفي فانكوفر حج إليه الناس وطلبة المدارس من كل مكان في كندا, وألقيت بالقرب منه محاضرات وأجريت مناقشات مفتوحة.
ومرة أخري بدأ العلماء يقلقون علي صحة (موبي دول), فقد لاحظوا أن طفيلا حول لون الحوت من أسود إلي رمادي, وظهر الحوت مرة واحدة بعد ذلك حك له فيها مدربه بطنه بفرشاة ثم غطس في الماء ولم يظهر بعد ذلك مطلقا, وأعلن عن موت موبي دول في أمهات الصحف الكندية والأوروبية, وبعد موته تأكد العلماء أن الحوت كان ذكرا لم يعش غير عامين اثنين فقط قضي منهما 85 يوما في الأسر والغريب أنه, أي الحوت, حصل علي ثروة طائلة أثناء أسره, بلغت مائة ألف دولار من المعجبين به للإنفاق علي غذائه, لقد كان الحوت بالنسبة لسكان فانكوفر العزاء الوحيد أو الأمل الوحيد الذي يهرعون إليه في ساعات الضيق والقلق والحرب الباردة لقضاء ساعات معه, يتفرجون عليه وهو يعلو ويغوص وينقلب علي بطنه ويظل كذلك مدة طويلة ينسون فيها آلامهم وهمومهم ومتاعبهم.