علي ضفاف نهر العدالة نبتت فروع الظلم, تغولت حتي صارت أشجارا, وفي طينه البريء اتسعت بركة القهر, وأطاحت بسلطان العدل, فغرق الذين لا حيلة لهم, بينما جلس العاجزون علي الشاطئ يبكون فهل من منقذ لجميع الذين ارتضوا صامدين صامتين؟
كم مرة طرحنا ذات التساولات بلا ردود؟ كم مرة رفعنا رايات الاستسلام والتسليم للظروف وساهمنا في الاحتمال مصدقين أن للإنصاف زمانا قريبا, حتي ظهر لنا التضخم, ومعه فساد الضمائر لدي قطاع كبير في السوق, يصاحبهما ضعف الرقابة, وغياب التراتبية المنطقية في الأولويات, ليخرج لنا الظلم لسانه كيدا ويميتنا كمدا راقصا فوق قبور الآمال الساذجة في العدالة الاجتماعية التي غابت عن الأغلبية.
فمصر تشهد منذ الربع الأخير من العام الماضي, زيادات متتالية ومتساعة في أسعار جميع السلع. الغذائية والاستراتيجية وخاصة الزيوت والسكر والأرز بنسب تراوحت بين 100% إلي 200%. وبينما يصرخ المواطنون يتنافس المسئولون علي الترويج لفكرة أن ما يحدث من ارتفاع جنوني للأسعار بسبب الأزمة العالمية, وهكذا تضيع المسئولية تاركة ملايين من الضحايا.
وهذه رسالة واحد من ضحايا التضخم, وما أتحدث عنه ليس استثناء ولكنها رسائل متكررة تصلني يوميا, بسبب ضيق العيش, اخترت منها هذه الرسالة الحزينة, لأحد القراء قال فيها: عايز حد يوصل صوتي, عايز حد يتكلم عني, بس من غير ما يقول اسمي, أنا كنت مستور, والدنيا كشفتني, أيام ظالمة وثقيلة, مش عارف أبدأ منين, العيد قرب, ومش معايا فلوس اشتري حتي الأكل, كل فلوسنا راحت علي الكهرباء والمواصلات ومدارس العيال, ده غير الدكاترة, مش قادر أطلب من حد حاجة, لكن كل ما أشوف أولادي صابهم الخرس وفي ناس حواليهم بتستعد للعيد وهم مش قادرين يشتروا حتي أكل, قلبي ينفطر عليهم, نفسي أخلص من كابوس العجز ومش عارف.
ها أنا أضع أمامكم قطعة من قلبي في دفقة شعورية تلامست بها مع أناس أشد عوزا ضاق بهم الحال, إنها رسالة ضمن رسائل عديدة تقطر ألما من لوعة الاحتياج, وذل السؤال لن أتطرق لتفاصيل الحرمان التي يعيشها قطاع عريض من المجتمع الآن, حتي لا يتأذي البعض نفسيا, لكنني أوجه اللوم للمسئولين عن ضبط السوق, وأطالبهم بالتوقف عن إلصاق ما يجري من رفع عمدي للأسعار بموجة التضخم العالمية لأنه بدأ هكذا لكنه تحول للعنة منفصلة عما يحدث عالميا, لذلك فإن العجز عن السيطرة علي لعنة الأسعار, لابد أن يصاحبه إجراءات حكومية صارمة ومتنوعة ومزايا تسهيلية, لأن التاجر حتي لو لم يكن من الطامعين فهو مضطر لرفع السعر في ظل ارتفاع أسعار كل المدخلات, سواء كانت مواد غذائية أو كهرباء أو إيجار.. إلخ حتي يمكن من إعادة شراء البضائع بالأسعار الجديدة, وتستمر الدائرة والنتيجة استمرار موجة التصخم, ووصوله لنسب غير مسبوقة في مصر, لا تتسق مع موجة التضخم العالمية, فقد كشف البنك المركزي المصري, أن المعدل السنوي للتضخم الأساسي سجل 40.3% في فبراير 2023 مقابل 31.2% في يناير. و5% في عام 2020 و14% في عام 2021, بينما في أمريكا التي تعاني أقوي موجة تضخم لم يتعد نسبة 6%, وفي الأردن لم يتخط حاجز 4%, إذا الأوضاع المأزومة بشكل خطير في مجتمعنا, لا علاقة لها بالأزمة العالمية بدليل ما جاء في الوثيقة الصادرة مؤخرا عن مركز دعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء ويقول فيها سجلت الأسعار العالمية للسلع الغذائية ارتفاعات قياسية خلال عام 2022, ووفقا لمنظمة الفاو ارتفعت الذرة بنسبة بلغت نحو25%, والألبان بنسبة بلغت نحو 20%, والحبوب بنسبة بلغت نحو 18%.
وبحسبة بسيطة نجد أن الأرقام المستخدمة للتدليل علي أن ما يحدث من غلاء في مصر جزء من التضخم العالمي, ما هي إلا أداة نفي وليست أداة إثبات, فنسب الارتفاع لدينا تخطت حاجز 100%, ولا تكفيها زيادة رواتب عابرة, بل تحتاج العدالة الغامرة, التي لا تأتي أبدا.
والنتيجة… يتزايد الفقر, تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء, تضيق مساحات الحلم بالعدالة الاجتماعية التي طالما نادي بها الحالمون, يتقاسم المستورون الهم المشترك في توفير القوت اليومي, تضغط الحاجة الملحة علي المعدمين فتدفعهم للتسول لدور العبادة وفي الشوارع وساحات الانتظار وبجوار المطاعم التي أغلق عدد منها بسبب ارتفاع تكلفة استمراره مقابل عدم تحقيق أي ربح.
هذا المشهد سيظل شديد القتامة ما لم تجد الحكومة حلولا ناجعة وسريعة, فالدور يلاحقنا جميعا إذا استمرت العدالة الاجتماعية مجرد فكرة حاضرة في خاطر الوطن المعلق علي صليب الأزمات, وفعلا غائبا عن الحكومات بسبب فقدان المنطق في الأولويات.