استوقفني جاري, ذلك الرجل الستيني الذي لا يتعدي معاشه ثلاثة آلاف جنيه, وابنته كانت علي وشك الزفاف, ثم أرجأته لحين أشعار آخر من الظروف الاقتصادية.
سألني الرجل:رايحين علي فين يا أستاذة؟ حقا لم أجد إجابة سوي مصمصة الشفاه, أرخيت عيناي إلي الأرض, خبطت رأ سي بكلتا يداي,لأنني لم أعد أعلم بماذا أجيب, والناس يتصورون أن أبناء مهنتنا هم العالمون ببواطن الأمور, واستقراء المستقبل, والحق أنه ما من أحد يمكنه- في ظل تلك الفوضي الاقتصادية- التكهن بأي شيء.
قال الرجل:إيه حكاية كروت العيش؟ أنا عندي بطاقة تموين, لكن خايف لأن إللي بيحصل ده معناه إن الحكومة صنفت المصريين نوعين, نوع يأخد عيش بشلن ونوع ياخد عيش بجنيه, والله أعلم بعد كده يبقي بكام.
رغم بساطة الكلام إلا أنه نافذ في عمق القرار الذي أصدره الدكتور علي المصيلحي وزير التموين والتجارة قبل أيام, حينما صرح بأن منظومة العيش الجديدة تسعي لحصول غير حاملي البطاقة علي العيش بسعر أقل من الرغيف الحر الذي يباع في المخابز السياحة, وذلك عن طريق كارت مسبق الدفع مشحون يتم الحصول عليه من مكاتب البريد, ليكون بديلا عن البطاقة التموينية لغير مستحقي الدعم, ويتم من خلال الكارت صرف الخبز المدعم من المخابز البلدية وذلك للسيطرة علي استغلال المخابز السياحية.
بمعني أدق, ناس مدعومة وتاكل عيش بشلن, وناس بيتقال إنها مدعومة وتاكل العيش بجنيه ويمكن أكتر, والاتنين في عرف الحكومة تلقوا الدعم, فهل بيع العيش ببطاقة شحن بسعر يتعدي الجنيه هو دعم وسيطرة علي الأسواق؟ أم أنه مزاحمة للمخابز السياحية تدفعها للمبالغة في رفع السعر؟
وفي ظل عدم وجود مخابز كافية علي مستوي الجمهورية تستطيع تلك المخابز المضاربة في السعر بحجة أن الحكومة تطرح الرغيف بجنيه أو أكثر, ناهيك عن مخاوف الناس وتساؤلاتهم عن نوايا الحكومة من طرح كروت العيش الجديدة كبالون اختبار لرفع الدعم نهائيا عن العيش.
ومن ناحية التطبيق العملي, هل عدد المخابز يكفي لسد حاجة أربعين مليون مواطن هم الفجوة بين حاملي بطاقات التموين وعددهم 71 مليونا, وبين غير حاملي البطاقات التموينية؟
أشك أن هذا سينجح في تأديب المخابز السياحية؟ لأن وزارة التموين تطرح منظومة متاجرة وليست منظومة حماية, ببساطة الحماية تتطلب ضبط الأسواق من كل النواحي, وفشل الوزارة في ضبط أسعار السلع الأساسية الزيت والسكر والأرز يجعلها تدير الأنظار بمنطقبص العصفورة إلي رغيف الخبز لإلهاء الناس عن فشلها في السيطرة علي جشع التجار وانفلات السوق وتفاوت الأسعار الفج في كل مكان, دارت تلك التساؤلات في ذهني وما زالت يداي فوق رأسي حتي قال الرجل: مش كفاية أننا مش عارفين نعيش يبقي العيش كمان, دي مابقتش عيشة
تركني الرجل وهو يلعن كل شيء حوله, ليقفز إلي رأسي ما كتبته هنا في ذات المساحة قبل عام من الآن, وتحت نفس العنوان العيش والعيشة وإللي عايشينها.
الناس صارت في كرب, فشلت أصوات التحذيرات وكأنها صنج يرن ونحاس يطن, صم المسئولون آذانهم عن السمع, مع تصميم فولاذي علي تنفيذ إجراءات اقتصادية دفعة واحدة تقضم ظهور المواطنين, وبرغم أن الجميع استسلم لتلك الإجراءات إلا أن العزاء الوحيد كان استمرار الرغيف البلدي المنتمي لبطاقة التموين في متناول حاملي البطاقات بنفس سعره ووزنه.
ومع اضطراب المنظومة الإلكترونية التي حذفت مستحقين واحتفظت بغير مستحقين, تجد الأسرة الواحدة بها فرد مدعوم وآخر غير مدعوم بدون سبب وجيه, لذلك كان الأولي بوزارة التموين طرح تلك البطاقات بسعر لا يتعدي الربع جنيه للرغيف, كدعم لأبناء الطبقة المتوسطة ومساعدتهم علي المعيشة, وليس المتاجرة بآلامهم, ودفعهم ليلعنوا العيش والعيشة وإللي عايشينها, مع غلاء الأسعار غير المسبوق, تحرك الملايين من فوق خط الفقر إلي أسفلهم, وهؤلاء هم الأعقد وضعا لأنهم الذين في عداد المستورين, بكرامتهم يموتون ولا يسألون, أولئك الذين تدهور بهم الحال, قريبا لن يجد لبعض منهم المال ليشحن كارت العيش ليطعم أسرته.