يهتم أولا بمن يريد التوبة, ثم يهتم بمن لا يريد.
بكل حماس روحي يتعامل مع الحالات التي تصل إليه من الخاطئين, لكي يقودهم إلي الإيمان وإلي التوبة, ثم يتدرج إلي البحث عن الضالين الذين لا يهتمون بأنفسهم, والذين لا يهتم بهم أحد. يجول باحثا عن النفوس الضالة بكل تعب وجهد, وبكل حرارة وحب.
وهذه الحرارة في الخدمة, تقوده إلي الحرارة في الصلاة, لأجل الخدمة.
شاعرا أنه بدون معونة من الروح القدس, لا يستطيع أن يخدم. فيسكب نفسه أمام الله, ليعطيه القوة التي يخدم بها, والحكمة التي يخدم بها, والكلمة التي يقولها.
ويصلي أيضا لكي يعمل روح الله في القلوب, ويعطيها استعدادا لقبول الكلمة.
فينخس الروح قلوبهم من الداخل, في الوقت الذي تنخس فيه الكلمة آذانهم من الخارج.
وهكذا ينتقل من حرارة إلي حرارة أخري.
حرارة محبة الله والناس, تنقله إلي حرارة الخدمة, وحرارة المحبة تنقله إلي الحرارة في التكريس, وتنقله إلي حرارة الصلاة, وهذه تنقله إلي حرارة الإيمان…
فكلما يصلي بحرارة قلب, ويري عمل الله معه في الخدمة, تحل في قلبه حرارة الإيمان, ويثق أن الله الذي عمل معه في الحالات السابقة, سيعمل معه في الحالات المقبلة أيضا, والله الذي بارك في ذلك الزمان, سيبارك أيضا الآن وكل أوان.
وكلما تقابله مشكلة في الخدمة يقول في قلبه وللناس, بكل إيمان, إن الله لابد سيحل هذه المشكلة. أنا واثق بذلك من كل قلبي.
والحرارة في الخدمة, تدفعه إلي مزيد من الجهد والتعب.
كلما ازدادت حرارته, يعتبر الراحة كسلا, ويقول مع داود النبي … إني لا أدخل إلي مسكن بيتي, ولا أصعد علي سرير فراشي, ولا أعطي لعيني نوما, ولا لأجفاني نعاسا, ولا راحة لصدغي, إلا أن أجد موضعا ومسكنا لإله يعقوب (مز 132: 3 ـ 5).
ويقصد بهذا موضعا للرب في قلب كل أحد…
حقا إن كثيرين يخدمون. ولكن من منهم حار في خدمته.
من منهم تخرج خدمته عن حدود الرسميات والشكليات والروتين, إلي حرارة الحب وحرارة العمل,وحرارة الروح. وقبل الكل تكون الخدمة بشركة الروح القدس…. كم من الخدام يخرج من نطاق مواعيده المحددة للخدمة, إلي الحرارة الروحية التي تخدم في كل وقت, ومع كل أحد. كالشمعة التي تضيء باستمرار لكل أحد, وتظل تضيء وتضيء حتي تذوب تماما…
ألسنا جميعا نتكلم في عظاتنا بكلمة الرب؟ ولكن هل نحن نتكلم بألسنة نارية؟!
وهل تخرج كلماتنا من قلوب ملتهبة, فتلهب السامعين؟ هكذا ينخسون في قلوبهم (أع 2: 37). وتقودهم إلي التوبة؟… هذا هو المقياس الذي نقيس به خدمتنا ومدي تأثيرها في الناس.
نعم, هل أخذنا نار الخمسين وخبأناها في قلوبنا؟ كما كان شعب الله يحتفظ بالنار المقدسة, ويحرص عليها…
انتقال الحرارة الروحية
من خصائص النار أيضا: أنها إذا سرت في شيء تحوله إلي نار مثلها…
إذا اشتعلت في خشب, يصير الخشب نارا. إذا اشتعلت في قطن, يصير القطن نارا. إذا أشتعلت في ورق, يصير الورق نارا…
هكذا الإنسان الروحي, الذي تسري فيه نار يوم الخمسين.
إذا اتصل بأحد يشعله أيضا, ويجعله نارا مثله.
وكمثال لذلك إنسان روحي ملتهب في خدمته, يدخل إلي كنيسة ليخدم فيها ـ ولو إلي حين ـ تري حرارته قد انتقلت منه إلي سائر الخدام. واشتعلت الكنيسة كلها.
هكذا كانت الكنيسة أيضا في أيام آبائنا الرسل: كان الروح القدس يعمل بكل قوة, فإذا بحرارة آبائنا الرسل تنتقل إلي تلاميذهم, وإلي باقي الخدام, وكل الشعب.
والحرارة الروحية التي كانت في الرهبنة في القرن الرابع… انتقلت من مصر إلي سائر بلاد العالم, وأنشئت رهبانيات في تلك البلاد…. بل انتقلت الفضائل الرهبانية حتي إلي السائحين والزوار, فكتبوا عنها كتاب, وكان لها تأثير واسع في كل مكان, وانتقلت الروحانية إلي العلمانيين أيضا وحرارة القديس أثناسيوس الإسكندري في الدفاع عن الإيمان.. انتقلت أيضا إلي كل أساقفة وكهنة وخدام الكنائس, بل انتقلت إلي كل الشعب أيضا. وأصبح الحماس من أجل الإيمان يجري في دماء الناس…
وهكذا حرارة كاهن واحد في خدمته, يمكن أن تجعل شعبه كله في نشاط روحي. وحرارة خادم أو أمين خدمة, يمكن أن تسود كل خدام الفرع, وينتقل الروح من شخص إلي آخر…
إن كان لك الروح الناري, فكل إنسان يقابلك ستشعله, وكل مكان تحل فيه ستشعله.
فهكذا طبع النار: لا تبقي حرارتها وحدها. إنما تشعل كل ما يلمسها. حتي الهواء المحيط بها يصير حارا…
ليس المهم إذن في عدد الخدام, إنما المهم هو ما يسكبه الروح القدس في قلوبهم من محبة لله وللناس, وحماس للخدمة, وغيرة علي بناء ملكوت الله.
فالرسل كانوا اثني عشر فقط, ومع ذلك ـ لامتلائهم بالروح ـ أمكنهم أن يلهبوا العالم كله… والقديس بولس الرسول كان فردا واحدا. ولكنه ـ من أجل عمل الروح فيه بكل حرارة ـ كان التهابه بالغيرة المقدسة سبب بركة للعالم كله….