إذن محاسبة النفس ليست هدفا في حد ذاته, إنما هي وسيلة أو هي نقطة البدء التي تؤدي إلي فضائل عديدة, منها إصلاح النفس, وتنقيتها من خطايا عديدة, وقيادتها من حياة التوبة إلي القداسة والكمال… وطبعا كل هذا لا يتم إلا إذا كانت محاسبة النفس في جدية, وفي حزم وبموازين سليمة وسامية في غير مجاملة وتحيز. لأن مجاملة النفس تؤدي إلي ضياعها. وإدانتها تؤدي إلي تقويمها وإصلاحها.
ألست تقول في كل يوم في الصلاة الربية: اغفر لنا؟…
هل تقول هذه الطلبة بطريقة روتينية, وليس في ذهنك شيء تطلب من الله أن يغفره؟ أم أنك ـ في محاسبتك لنفسك ـ تعرف تماما ما تصلي لأجل مغفرته… وتذكره أمام الله, من عمق قلبك وفكرك.
إن القديسين كانوا يذكرون خطاياهم حتي بعد مغفرتها.
القديس بولس الرسول الذي دعاه الرب بنفسه ليكرز للأمم, والذي تعب أكثر من جميع الرسل, نراه يقول أنا الذي لست أهلا لأن أدعي رسولا, لأني اضطهدت كنيسة الله, (كو 15:9). ويكتب أيضا إلي تلميذه تيموثاوس ويقول أنا الذي كنت قليلا مجدفا ومضطهدا ومفتريا. ولكنني رحمت, لأني, لأني فعلت بجهل في عدم إيمان (1 تي 1:13). وعلي الرغم من أنه فعل ذلك بجهل وفي أيام عدم الإيمان, وعلي الرغم من رحمة الله له ومغفرته, ودعوته لأن يكون من أبطال الإيمان, إلا أنه ظل منسحقا يتذكر خطاياه.. محاسبة النفس إذن تقود إلي الانسحاق والاتضاع.
فإن لم يحاسب الإنسان نفسه, قد ينسي خطاياه, ويفقد اتضاعه.. أما داود النبي فإنه يقول في المزمور الواحد والخمسين خطيتي أمامي في كل حين.
قال هذا بعد مغفرة الرب له, (2صم 12:13). وظل هكذا في اتضاعه, حتي أنه حينما شتمه شمعي بن جيرا بشتائم موجعة, وأراد رجاله أن ينتقموا منه, منعهم قائلا دعوه يسب, لأن الله قال له سب داود (2 صم 16:10).
الذي يحاسب نفسه, لا يدين غيره, بل يركز علي إدانة نفسه باستمرار ينظر إلي الخشبة التي في عينه, فلا يتفرغ لنظر القذي التي في عين أخيه (من 7: 1ـ3). إنه يخاف من قول الرب بالكيل الذي به تكيلون, يكال لكم, وبالدينونة التي بها تدينون تدانون (مت 7:2). وهكذا وبخ السيد المسيح الكتبة والفريسيين الذين أرادوا رجم المرأة المضبوطة في ذات الفعل وقال لهم من كان منكم بلا خطية, فليرمها بأول حجر (يو 8:7).
قطعا أرادوا رجمها, لأنها ما كانوا يحاسبون أنفسهم علي خطاياهم! كما يقول المثل من كان بيته من زجاج, لا يقذف الناس بالحجارة.
العشار كان يحاسب نفسه علي خطاياه, لذلك وقف منسحقا أمام الله يقول ارحمني يارب, فإني خاطئ (لو 18:13). وهكذا أخرج مبررا دون ذلك الفريسي, الذي نسي خطاياه, ووقف أمام الله مفتخرا يدين غيره.
حقا إن محاسبة الإنسان لنفسه, تمنعه من الافتخار والمجد الباطل.
لأنه كيف يفتخر, وخطيته أمامه, تسحق نفسه؟! لذلك فهو لا يمدح نفسه. ولا يقبل المديح من الآخرين. بل يسهل عليه الاعتراف بخطاياه وهكذا فعل القديس موسي الأسود. الذي لما دعي لإدانة راهب حمل جوالا مملوءا بالرمل وبه ثقب, وقال لمن سألوه هذه خطاياي من وراء ظهري تجري وقد جئت لإدانة أخي!! لذلك من يحاسب نفسه علي خطاياه, يشفق علي غيره عارفا أن الخطية طرحت كثيرين جرحي, وكل قتلاها أقوياء (أم 7: 26) وهكذا يضع أمامه قول الرسول اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم. والمذلين كأنكم أيضا في الجسد (عب 13:3).
وهكذا كان يفعل القديس يوحنا القصير كان إن رأي إنسانا ساقطا. يبكي ويقول الشيطان أسقط أخي اليوم وقد يتوب غدا. وربما يسقطني أنا أيضا ولا أتوب!! ويبكي.
إن من يحاسب نفسه, يشعر بضعفه, ويفعل, ويصل إلي مخافة الله يكتسب هذه المخافة, ويقول كما نصلي في الأجبية في صلاة النوم هوذا أنا عتيد أن أقف أمام الديان العادل مرعوبا ومرتعدا من كثرة ذنوبي. وكما نقول في صلاة نصف الليل إذا ما تفطنت في كثرة أعمالي الردية, ويأتي علي قلبي فكر تلك الدينونة الرهيبة, تأخذني رعدة. فأهرب إليك يا الله محب البشر, فلا تصرف وجهك عني…
إذن محاسبة النفس, تقود إلي الصلاة.
لأن من يشعر بخطاياه, يصلي طالبا من الله المغفرة. لأن هذا هو الملجأ الوحيد له. كما قال داود في المزمور السادس يارب لا تبكتني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك.
بل تقود إلي الدموع أيضا, كما قال داود في نفس المزمور السادس في كل ليلة أعوم سريري, وبدموعي أبل فراشي.
ومحاسبة النفس تقود أيضا إلي التوبة وإلي التداريب الروحية.
فإذ يحاسب الإنسان نفسه وتتكشف له خطاياه, يدخل في تداريب روحية لكي يدرب نفسه علي ترك تلك الخطايا. وهكذا تقوده المحاسبة إلي التوبة. كما تقوده أيضا إلي النمو الروحي, حينما يتذكر نقائصه في محاسبته لنفسه ويتعود الحرص في حياته الروحية.
ختاما أرجو لكم ـ في محاسبتكم لأنفسكم ـ أن تضعوا كل الخطايا والضعفات أمام الله وأنتم تصلون في ليلة رأس السنة وأن تذكروا أيضا ضعفي, وتطلبوا لي من الله معونة ومغفرة وكل عام وجميعكم بخير.