قال السيد الرب في العظة علي الجبل كونوا أنتم أيضا كاملين, كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل (مت 5: 48).
إذن الشخصية من المفروض أن تكون كاملة في كل شيء, لتحتفظ بصورة الله التي خلقت بها منذ البدء تك1.
غير أن الأنسان ـ وهو سائر في طريق الحياة ـ كثيرا ما يصطدم بمشكلة في حياة البر, وهو أن فضيلة تبدو أمامه كما لو كانت تصطدم بفضيلة أخري أو تتناقض معها!! فلا يدري في أيهما يسلك, وبأيهما يضحي..!
فهو قد يجد أن فضيلة الوداعة ضد فضيلة الشجاعة! ويري أن الطيبة ضد الحزم, وأن التواضع ضد قوة الشخصية, وأن البساطة ضد الحكمة, وأن حياة الخدمة لا تساعد علي حياة التأمل..!!
وهكذا يرتبك في أي الطرق يسلك! وإن سلك في فضيلة علي حساب فضيلة أخري, فإنه يضيع واحدة منهما! ونحن ندعو إلي تكامل الفضائل لا إلي تناقضها..
ونري أنه يجب علي الإنسان الروحي أن يتصرف بحكمة, ويعرف الوقت المناسب الذي يتصرف فيه حسب فضيلة معينة.
فالصمت مثلا حين يحسن الصمت. والكلام حين يحسن الكلام.
وكذلك الطيبة في الوقت الذي تصلح له. وأما الحزم فحين يلزم الحزم. وهكذا مع باقي الفضائل.
فلا يسلك في فضيلة واحدة بغير حكمة, مهما كانت الظروف والأسباب وإنما يكون سلوكه بإفراز, مراعيا ما يناسب الحال, وما تدعو إليه الحاجة.
ولنتناول مثلا موضوع الطيبة وقوة الشخصية, ولنأخذ السيد المسيح له المجد كمثال لنا..
لقد كان السيد المسيح طيب القلب, وما في ذلك شك, هذا الذي إنه كان لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته قصبة مرضوضة لا يقصف, وفتيلة مدخنة لا يطفئ (مت 12: 19ـ 20) وكأن ايضا طيب القلب, يحب الأطفال ويحتضنهم مر 10: 16 وقد سامح المرأة الخاطئة ودافع عنها يو8: 3 ـ 11. بل وصل الأمر به أن سمح للشيطان أن يجربه, وأن يختار مكان ونوع التجربة (مت 4).
ومع كل ذلك, فإن طيبة المسيح لم تمنع قوته وهيبته سمح للشيطان أن يجربه, ولكن لما خرج ذاك عن حده انتهره وطرده من حضرته وقال له أذهب يا شيطان فذهب (مت 4:10ـ 11), كان السيد المسيح طيبا, وكان قويا أيضا, قويا في كلامه وفي تأثيره وفي اقناعه, قويا في تصرفه, كما يظهر ذلك في تطهيره للهيكل إذ طرد الباعة وقلب موائد الصيارفة وقال لهم: مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعي, وأنتم جعلتموه مغارة لصوص (مت 21: 12ـ 13).
في بعض الأوقات كان يحاور الكتبة والفريسيين, ويقنعهم في هدوء وفي وقت آخر وبخهم بشدة, وقال لهم ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون.. 23. كما وبخ الكهنة وقال لهم ملكوت الله ينزع منكم, ويعطي لأمة تصنع ثماره (مت 21: 43).
كان متواضعا, وحازما, وفي حزمه كان محبا أيضا, إنه متواضع ووديع, كما قال لتلاميذه تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب (مت 11: 29). ومع ذلك كان في منتهي الحزم في مواقف متعددة صفة الحب مع الحزم, تتضح في ذلك البيت من الشعر:
يا قويا ممسكا بالسوط في
كفه والحب يدمي مدمعك
كان يحب تلاميذه, وكان ينتهرهم أيضا متي استدعي الأمر, وهكذا قيل إنه أحب خاصته الذين في العالم, أحبهم حتي المنتهي (يو 13: 1). وفي حبه لهم تواضع وغسل أرجلهم يو 13:5 ومع ذلك لما أراد بطرس أن يمنعه عن الصليب, قال له اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي (مت 16:23).
وبنفس الحزم وبخ تلميذيه لما قالا له أتشاء أن تنزل نار من السماء وتحرق هذه المدينة (لو 9: 55).
إن الحب والحزم يمكن أن يجتمعا معا. ولكن من الأشياء الغريبة في محيط الأسرة أن الوالدين قد يوزعان الحب والحزم فيما بينهما..!
فيكون للأم الحب, وللأب الحزم, بينما ينبغي أن يكون الحب والحزم لكل منهما. ولكن يحدث إن أخطأ الابن أو حاول أن يخطئ تقول له الأم لا تفعل هكذا لئلا يغضب أبوك ويعاقبك دون أن تقول له إنها أيضا لا ترضي عن ذلك الأمر! ويختلط الأمر علي الابن, ولا يعرف أين الحق. كل ما في الأمر أمامه أنه يتقي غضب الأب!.
مثال آخر للحب والحزم, في معاملة يوسف الصديق لإخوته, كانوا إخوته أكبر منه سنا. وكانت لهم أخطاؤهم. أولئك لم يربهم أبوهم يعقوب, فتولي يوسف تربيتهم. سواهم علي نار هادئة, وبحكمة وبحزم شديدين, حتي تذكروا خطاياهم وبكوا أمامه. وحتي قال بعضهم لبعض حقا أننا مذنبون إلي أخينا, الذي رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع له. لذلك جاءت علينا هذه الضيقة (تك 42:21).
ومع حزم يوسف, نري محبته لإخوته واضحة, إذ يقول الكتاب إنه لما رأي مذلتهم أمامه تحول عنهم وبكي ثم رجع اليهم وكلمهم وأخذ منهم شمعون وقيده أمامهم (تك 42: 4) وأخيرا لما أدرك النتيجة التي وصل إليها بحزمه, يقول الكتاب إن يوسف لم يستطع أن يضبط نفسه.. وأنه أطلق صوته بالبكاء.. وقال لأخوته: أنا يوسف. أحي أبي بعد؟ (تك 45: 1ـ 3).
وعلي الرغم من حزمه الشديد في معاملة أخوته, وخوفهم منه لأنهم سبقوا أن باعوه, نراه يطمئنهم علي مستقبلهم وبخاصة بعد موت أبيهم لما سجدوا أمامه وطلبوا صفحه عنهم. يقول الكتاب فبكي يوسف حين كلموه.. وقال لهم لا تخافوا أنتم قصدتم لي شرا, أما الله فقصد بي خيرا.. وقال لهم لا تخافوا أنا أعولكم وأولادكم, فعزاهم وطيب قلوبهم (تك 50: 16, 21).
ننتقل إلي نقطة أخري, وهي الوداعة والشجاعة:
ليست الوادعة ضد الشجاعة, ولا الشجاعة ضد الوداعة, ويمكن للإنسان الروحي أن يجمع بينهما, كما نري في قصص الآباء والأنبياء.. كان داود شجاعا جدا, إذ وقف ضد جليات الجبار وهزمه, في وقت كان فيه كل الجيش خائفا منه, وكان وديعا إذ يقال عنه في المزمور: اذكر يا رب داود وكل دعته (مز 131:1) ومع أنه كان قائدا في الجيش, كان كل الشعب يحبه لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم (اصم 18: 16). ولما كلموه عن مصاهرة الملك شاول, أجابهم هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك, وأنا رجل مسكين وحقير (اصم 18: 23).