بسرعة إلي عمق الأعماق, لأنهم كانوا قد سلكوا بجدية
الإنسان الجاد يكافح ويتعب من أجل الهدف الذي يسعي إليه.
كما قال داود النبي في المزمور إنه لا يدخل إلي مسكن بيته, ولا يصعد علي سرير فراشه, ولا يعطي لعينيه نوما ولا لأجفانه نعاسا, إلي أن يجد موضعا للرب ومسكنا لإله يعقوب.
وبهذه الجدية أيضا تعب الرسل.
لكي يقوموا برسالتهم وواجبهم, في سعي وكد, في سهر, في أسفارمرارا كثيرة, في جهاد مع قوي الشر, في صوم وصلاة في احتمال للمشقات والاضطهاد, في احتمال لمقاومات ضد كلمة الله. ولم يهدأوا حتي استطاعوا أن ينشروا ملكوت الله علي الأرض, وإلي أقطار المسكونة بلغت أصواتهم وبنفس الوضع قال الرب لراعي كنيسة أقسس أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك.. وأنك تعبت من أجل اسمي ولم تكل [رؤ 2].
إن احتمال التعب. دليل الجدية
وبقدر ما يتعب الإنسان الجاد, بقدر ما يفرح بثمرة تعبه, ويؤهله الله لكرامة كبيرة, وكما يقول الكتاب إن كل واحد يأخذ أجرته بحسب تعبه [1 كو 3: 8]
أما الذين لا يريدون أن يتعبوا, لأنهم لا يأخذون الحياة بجدية, فأولئك سيندمون بعد فوات الفرصة. وما أصدق قول الشاعر.
إذا أنت تزرع, وأبصرت حاصدا ندمت علي التفريط في زمن البذر وما أصدق قول الشاعر أيضا:
إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجساد
والله لا يحب الكسل, لذلك قال الكتاب.
ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة
إن الأهداف الكبيرة لا تتحقق إلا بجهاد وتعب وصبر, وجدية في السلوك وفي العمل الدائب الدائم المستمر.
والعمل الجاد له صورته المميزة
يستطيع أي انسان أن يفرق بين العمل الجاد وغير الجاد.. تظهر الجدية في الإتقان, وفي النتيجة والثمرة المفرحة, وفي الإخلاص للعمل والنظر إليه من جميع زواياه, وقد تظهر نتيجة الجدية أيضا في الوقت الذي يستغرقه العمل, الذي لا مماطلة فيه ولا تعاون ولا لعب ولا ارتكان علي أعذار, بل فيه عنصر الالتزام الذي يدعو إلي الاحترام.
فرق كبير بين صلاة هي مجرد كلام, وصلاة فيها صلة واضحة مع الله, عميقة وحارة. إنها صلاة جادة يشعر فيها الإنسان أنه يخاطب الرب.
فرق كبير بين خدمة لها طابع الرسميات, وخدمة مملوءة حبا وإخلاصا, تتضح فيها الجدية بكل عطائها وبذلها..
إن الذين سلكوا بجدية في الطريق الروحي, وصلوا بسرعة
القديس تادرس تلميذ باخوميوس, صار مرشدا للرهبان ومؤسسا لأديرة عديدة, وهو بعد شاب صغير.
والقديس ميصائيل صار من السواح وهو في حوالي الثامنة عشرة من عمره والقديس أثناسيوس الرسولي وصل إلي الكرسي المرقسي وصار بابا الكرازة وهو في حوالي التاسعة والعشرين كأصغر بطاركة الكنيسة كلها..
يوحنا المعمدان في فترة ستة أشهر من الخدمة الجادة, أعد للرب شعبا مستعدا بالتوبة.
وبالجدية وصل القديسون إلي درجات عالية جدا في حياة الروح.
ذلك لأنهم سلموا أنفسهم تماما لعمل النعمة فيهم, ولم يقاوموا الروح, ولم يطفئوا الروح, ولم يضيعوا الوقت في صراع, وفي تعويق لعمل الله فيهم.
بل وجدت النعمة أمامها قلوبا مفتوحة, مستسلمة تماما, فعملت فيها بلا مقاومة ولا مانع. وهكذا ارتفعوا إلي قمم روحية عالية, وتأهل الكثير منها للمواهب العجيبة.
الانسان الجاد, في كل يوم يزداد.
كالشجرة التي لا يتوقف نموها, بل تصعد دائما إلي فوق. ولذلك لم يدعنا الرسول فقط إلي السير في طريق الله, وإنما قال
اركضوا لكي تنالوا…
وقال عن نفسه أسعي لعلي أدرك
أنسي ما هو وراء, وأمتد إلي قدام. أسعي نحو الغرض [في 3]
ليتنا إذن نسير جادين في طريق الرب, بغير توقف, وبغير نكسة أو رجعة إلي الوراء, بالجدية التي تعرف جمال الحياة مع الله, وأهمية الأبدية بالنسبة إلي الإنسان.
أما غير الجادين, فأننا نصلي إلي الله أن يمنحهم هذه الجدية, كنعمة من عنده, كعمل من أعمال روحه القدوس في القلب, كدفعة من دفعات محبته التي تجذب إليه الجميع.
وبهذه الجدية يكون القلب خالصا لله, وتكون النية والارادة والعزيمة كلها في يديه يدفعها بقوة في طريق ملكوته تبارك اسمه القدوس.