تلك النظرة العميقة.. التؤدة المحكمة…
ذلك الازدراء المقنع بالحكمة والتعقل الكاذبين…
هذي الثقة غير المبررة وغير المنطقية… وهذه السذاجة المتسربلة بثوب الغموض والاستعلاء…
تلك النظرة… تبا لها.. مؤلمة هي حقا لمن لا يفهم… ومضحكة هي إلي حد الموت ممتزجة بطعم الرثاء….. لمن يفهم
نظرة.. بدت تغزو الوجوه.. بعض الوجوه.. لا بل الكثير منها. نظرة تجبر وتكبر واستعلاء مقيتة قميئة…. يخال صاحبها أنه المسيطر.. جبار البأس.. العالم ببواطن الأمور وخفاياها وصاحب التوكيل الوحيد الكامل والشامل للحقيقة..
كنت وأنا طفلة بريئة.. إلي منتصف مراهقتي الساذجة… أعتقد أن صاحب تلك النظرة إنما هو حكيم من الحكماء تناسخت روحه في جسد شخص آخر.. ولربما ظننت أنه أحد العظماء الأشاوس الجبارين. وما إن بدأ عقلي يدرك وإدراكي يعقل وكلاهما ينضج.. أيقنت الحقيقة الصادمة… وهي أن تلك النظرة تتناسب تناسبا عكسيا مع قيمة هذا الشخص ومعطياته ومكوناته ومكنوناته التي تشكل روحه ونفسه وقلبه وعقله.
فكلما فرغ الإناء أصدر أعلي الأصوات وأقبح الضجيج… وتلك النظرة ضجيج صامت أسوأ من أي ضجيج آخر. وكلما فرغت الروح من غذائها الطيب وخلا العقل من البصيرة والحكمة احتدت تلك النظرة واشتدت قسوتها وازداد تكبرها لتعوض النقصان… ما ينقص صاحبها من جمال روح وسكينة نفس وحكمة عقل ودفء مشاعر الحب.
إنها نظرة تطلق لتخيف من أمامها وياللعجب إنها تنطلق من منبع للخوف والعجز والفشل.
النفس الممتلئة بالدرر والعامرة بالكنوز.. هي نفس هادئة وديعة رقيقة راقية راضية مرضية.. كريمة سخية معطاءة بلا أغراض أو تمييز.. غير متكبرة ولا متجبرة… ترحم وتغفر وتستر…. تحب وتؤازر..
فحقا… لا يخرج من الجافي حلاوة… ولا من المر شهدا. الأشجار المثمرة الطراحة تتدلي أغصانها وتتضع فتطعم القاصي والداني.. أما الشجرة الجافة العقيمة تراها صلبة تقف شاخصة للسماء في شموخ وهمي… لأنها ببساطة لا تساوي شيئا ولا قيمة لها أو نفع.
فلنعمل جاهدين وبجد علي أن نملأ أرواحنا وأنفسنا بكل ما هو حقيقي جميل عطر شجي… بالحب والعدل والخير والرحمة… ننزه أعمالنا الطيبة عن الأغراض البشرية والدنيوية والمصالح لنستطعم مذاق ثمارها الحلو… وحتما إن تذوقنا تلك الحلاوة ولو لمرة واحدة بحياتنا لن نسلاها ولن نرضي عنها بديلا ولو كان البديل كنوز العالم بأكمله… ويوم نتذوقها لن نحتاج لتكل النظرة علي وجوهنا… ولو بأقل درجات حدتها لنقول نحن هنا وقتها سيكفي بصيص النور المنبثق من حلاوة أرواحنا ليضيء أكوانا من ظلمات البؤس والحزن والشقاء من حولنا وستنطلق من العيون نظرة تدب الحياة والأمل في النفوس اليائسة…. نظرة فاتنة ليست كأي نظرة.