سيد درويش البحر، مجدد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي ويعتبر أبًا للموسيقي المصرية والعربية، ولد في الاسكندرية في 17 مارس 1892 وتوفي في 10 سبتمبر 1923 عن عمر 31 عام ، في كوم الدكة، خلال طفولته لم تكن عائلته قادرة على تحمل تكاليف تعليمه ، لذا انتسب إلى أحد المعاهد الدينية في الإسكندرية والتابع لمسجد العباسي- المرسي ، حيث حفظ القرآن وتجويده، وبعد تخرجه من المدرسة الدينية حصل على لقب الشيخ سيد درويش، ثم درس في جامعة الأزهر لمدة عامين ، ترك دراسته لتكريس حياته للتركيبات الغنائية والموسيقية ،وبدأ ينشد مع اصدقائه ألحان الشيخ سلامة حجازي عام 1905، ثم عمل في المقاهي ، حيث اعجب به مدرس الموسيقى “سامي أفندي” بمواهبه وشجعه على المضي قدما في مجال الموسيقي، وعلى الرغم من عمره القصير إلا أنه نجح في أن يترك بصمة كبيرة في الموسيقي العربية، ولا يزال يعتبر شخصية نبيلة ومحبوبة في التاريخ المصري.
زواج سيد درويش:
تزوج في السادسة عشر من عمره ،وصار مسؤولًا عن عائلة ، وبعد زواجه بعدة اشهر تجمد عمله بالفن وأصبح يبحث عن مصدر رزق، له من زواجه الأول، أما زوجته الثانية جليلة فقد كان حبه لها هو الأكبر ،فالعديد من الأغاني كانت لها وتزوجها في عام 1918 ،وانجب منها ابنًا واحدًا هو حسن، كما تعرف في فرقة عكاشة على “حياة صبري “واسمها الحقيقي عائشة عبد العال، واحبها بشكل كبير ،ويقال بأنه تزوجها عرفيًا بشكل سري.
بداية درويش الفنية:
اشتغل مع الفرق الموسيقية ولكنه لم يوفق مما أضطره إلى العمل كعامل بناء ،وكان خلال عمله هذا يرفع صوته بالغناء ، مما آثار إعجاب زملائه وأصحاب العمل، كما تصادف وجود الأخوين أمين وسليم عطا الله في مقهى قريب من موقع عمل سيد درويش ،وكانا من أشهر المشتغلين بمجال الفن وقتذاك، مما استرعى انتباههما ما في صوت العامل “سيد درويش” من قدرة وجمال ،واتفقا معه على مرافقتهما إلى رحلة فنية في الشام عام 1908، ثم عاد إلى مصر قبل بداية الحرب ،وحصل على شهرة محدودة من خلال الغناء في المقاهي على الرغم من ذكاء مؤلفاته، إلا أنه لم يحظ بشهرة جيدة ،حيث كان حضوره متوسطًا مقارنة مع النجوم في زمنه مثل “عبد الحي” أو “زكي مراد”.
عاد درويش من الشام إلى الإسكندرية بعد تسعة أشهر تقريبًا ،وأصبح يغني وينشد في المقاهي والأفراح، وفي 1910 انضم درويش إلى فرقة “عطا الله سليم ” التمثيلية في لبنان وسافر إلى لبنان ،وعند عودته إلى الإسكندرية ،أصبح يؤلف ألحانًا خاصة به، ولكنه كان ينسبها لغيره بسبب صغر سنه، ولكي تحقق شهرة فكانت تحقق كل النجاح.
عاد درويش مرة أخرى إلي لبنان مع سليم عطا الله وهناك اتقن أصول العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية واكمل دراسة الموسيقى والتراث العربي وأصبح يقدم ألحانه باسمه ،فبدأت موهبته الموسيقية تتفجر وتتجلى، ووقتها في الفترة ما بين 1912 : 1914 عاد إلى الإسكندرية وأكمل عمله بالأفراح والمقاهي وبدأ في تلحين أدواره والتى كان أولها “يا فؤادي ليه بتعشق”، إلا أنه في عام 1917 انتقل إلى القاهرة هذه المرة بعدما قابل الشيخ سلامة حجازي الذي كان ذو شهرة واسعة وقتها ،وشجعه على القدوم الي القاهرة ليقدمه للجمهور ،إلا أن الجمهور قابله بالصفير كونه صغير السن ،حينها خرج الشيخ سلامة حجازي وقال لهم بأن هذا الفتى هو عبقري المستقبل.
أصيب بالإحباط والحزن الشديد بسبب فشله في القاهرة، فعاد إلى الإسكندرية وهناك عمل في محل للأثاث القديم خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ،وانتشر اسمه كثيرًا في القاهرة بأسلوبه الجديد في التلحين، وكانت توجد فرقة الممثل الكبير “جورج أبيض” الذي طلب من “درويش” أن يلحن له أول أوبريت باسم “فيروز شاه” دعاه من الإسكندرية .
كان عام 1918 نقطة تحول في حياته ،فبعد الكثير من الاخفاقات في الغناء بالمقاهي ،قرر أن ينتقل إلى القاهرة ،حيث تعرف على شخصيات مهمة ولا سيما “نجيب الريحاني” الذي كان يمتلك فرقة المسرح ،ومنذ ذلك الحين سطع نجم درويش وصار انتاجه غزيرًا ،فقام بالتلحين لكافة الفرق المسرحية في عماد الدين أمثال فرقة نجيب الريحاني وجورج أبيض وعلى الكسار حتي قيام ثورة 1919 فغني “قوم يا مصري” ،مما ساهم في سطوع نجمه بشكل أكبر عقب غنائه وتلحينه لأغنية قوم يا مصري التي حققت نجاحًا واسعًا في الشارع المصري وقتها.
أدخل درويش في الموسيقي لأول مرة في مصر وقتها الغناء البوليفوني في الموسيقى المصرية من خلال أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد والبروكة،وتعاون مع المغنية والممثلة “منيرة المهدية” التي ألف معها عدة أعمال مثل “كل يومين” كما بلغ انتاجه في حياته القصيرة من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار وأربعين موشحًا ومائة طقطوقة و30 رواية مسرحية وأوبريت.
وفي عام 1920 قدمت أوبرا كاملة من ألحان سيد درويش بعنوان “مارك أنطوان وكليوباترا” على خشبة المسرح المصري، وهناك عدد من الألحان التي تألفت للريحاني أو الكسار ،وهى الآن جزء من الفولكلور المصر مثل “سالمة يا سلامة” و “زوروني كل سنة مرة” و “الحلوة ن كبار في الشرق الأوسط ” و “أهو ده اللي صار” والتى تغنت من قبل مطربين كبار أمثال السيدة فيروز وصباح.
سعت العديد من شركات تسجيل الصوت لتسجيل صوت سيد درويش وهي “ميشيان ” وهي شركة تسجيل محلية صغيرة أسسها مهاجر أرمني ،وقد سجلت صوته بين عامي 1914 و 1920 و “أوديون” الشركة الألمانية التي سجلت على نطاق واسع ذخيرته المسرحية الخفيفة في عام 1922، و”بايدافون” التى سجلت ثلاثة أدوار عام 1922.
حقائق عن درويش :
كان درويش مهتمًا بالقراءة والمطالعة ويقرأ كل ما يقع تحت يده من صحف وكتب ،وصدر فيلم مصري عن سيرة حياته قام ببطولته الفنان “كرم مطاوع” وأخرجه “أحمد بدرخان” عام 1966.
كان ملحن الثورة ونافخ نيرانها بما كان يبثه في ألحانه من قوى متدفقة وأنغام تهدر كما تهدر الرواسي الشامخات من الجبال ويتجه ماضيًا إلى غايته في عزم وإصرار ،فكان صادقًا في إفصاحها لتظل منبع البساطة التي تصل إلى أعماق القلوب، فهو صاحب النشيد الوطني المصري “بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي”
تناول المؤلف محمد محمود في كتابه “صوت الثورة.. سيد درويش”، حياة الشيخ سيد درويش منذ لحظة ميلاده حتي لحظات وفاته الاخيرة، والذي يعد بمثابة أول كتاب يتناول مسيرة حياته ،واستطاع المؤلف أن يكتشف أربع قصائد كتبت خصيصًا في الذكرى الثانية عشر لوفاة الموسيقي المتجدد الشيخ سيد درويش، تلك القصائد التي ختم بها المؤلف كتابه ،الذي ظل ممنوعًا من النشر في عهد الملكية حتى اندلعت ثورة 23 يوليو 1952،فأفرجت عنه في أعقاب قيام الثورة، سطر هذه القصائد الأربع: أحمد رامي ،أحمد شوقي ،عباس محمود العقاد ،مختار الوكيل، فكان أحمد رامي في قصيدته التي نشرت في “موسوعة المبدعون.. الرثاء في الشعر العربي” الصادرة عن دار الراتب الجامعية بيروت – لبنان :يا فقيد الغناء والتلحين/ جئت أشكو إليك ما يبكيني /مبسم غاب في التراب وأبقي /لحنه في القلوب بث الشجون /يا فقيد الشباب عشت فما /أبقيت في العيش من هوى أو فنون/ صور صغتها غناء شجيًا /ومعان وضعتها في اللحون /يا نجي الأحباب أين لياليك / وأين الغناء عند عند السكون /كم تمنيت أن تغني شعري /فإذا بي أبكيت في تأبيني/ ومضت بي الأيام أهفو إلى اللقيا /وأسقي ذاكراك فيض شئوني.
بني مسرح سيد درويسش أو دار أوبرا الاسكندرية عام 1918 ،كان يطلق عليها تياترو محمد على وتسمي دار أوبرا الاسكندرية حاليًا باسم فنان مدينة الاسكندرية سيد درويش وذلك اعتبارا من عام 1962 تقديرًا له على تحديثه في مجال الموسيقي في مصر.
أهم ما قيل عن درويش:
كتبت في سيد درويش العديد من القصائد والأقوال المأثورة، حيث قال سعد زغلول عنه:” أنه كان زعيماً وطنياً لأنه عبر عن آمال الناس وطموحاتِها”، وكتب فيه صفوة مفكري مصر الرواد الشعر وقالوا فيه مرثيات تقشعر لها الأبدان، ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي وبيرم التونسي وأحمد رامي والعـقّاد والمحدثون مثل صلاح جاهين ومحمود الحفني عميد الموسيقى العربية وغيره، وقال عنه محمد عبد الوهاب “أنه الأستاذ الأكبر”، كما قال عبدالوهاب، في كتابة “رحلتي”، عن سيد درويش وأدواره في الفن العربي وأفضاله، “يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن.. إن سيد درويش فكر.. تطور .. ثورة .. فسيد درويش هو الذي جعلني أستمع للغناء بحسي وعقلي .. بعد أن كنت أستمتع بحسي فقط .. إنه فكرة العصر التي لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذي يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقة للأعمال المسرحية”، ويرى عبدالوهاب “من أفضال الشيخ سيد درويش على الألحان العربية أنه أدخل الأسلوب التعبيري في ألحانه حتى في الأدوار التقليدية الكلاسيكية التي لحنها، بالإضافة أن له أفضالاً كثيرة على كل ألوان الغناء” .
كما قال الريحاني في أحد الحوارات الإذاعية عنه ” “سيد درويش روح هائمة على وجه الأرض .. روح غير مستقرة.. وفي ذكرياته معي أحداث طويلة لا تكفيها إذاعة ولا غيره، ذكريات فيها الوداد والخناق والغضب والرضا والضحك والدموع أيضا” .
وأيضاً قال السنباطي عنه “أن كل ما نحن فيه من فن هو أثر من آثار سيد درويش”، لقد نشأَ وسط الشعب وأفنى حياته من أجلِ البسطاء، لم يُعين في منصب حكومي، ولم يأخذ بيده صاحب سلطة، ولم يكن بيده سلاح غير موهبته وإيمانه بالله وحبه لوطنه وأمته”، وقال موسيقيون غربيون عنه “لقد ساهمت ألحان وأغنيات سيد درويش في تطوّر كتابة الموسيقى في الغرب واستعمالهِم للآلات الموسيقية الشرقية”.
هذا بالإضافة إلى ما ذكره عنه الملحن زياد الرحباني ” بأنه قد لاقى خلال إحدى جلسات عمله في استديو بألمانيا، حفاوة وإعجاب وتساؤلات عديدة حول ملحن أغنية “زوروني كل سنة مرة”، وعن هويته وجنسيته، من قِبل مهندس صوت ألماني، في ذاك الاستديو، وأنهم طلبوا سماعها عدة مرات بعد التعرف إلى شخصية المؤلف المصرية من خلال ما يرويه لهم الرحباني”.
وقد نال سيد درويش من التكريم الذي يستحق أكثر منه بكثير، فأقامت له الدولة 3 تماثيل واحد في حديقة الخالدين والثاني في أكاديمية الفنون والثالث في دار الأوبرا المصرية، وأطلقت اسمه على مدرسة وعدة طوابع بريد، هذا بالإضافة إلى تأليف أكثر من كتاب عن سيد درويش منها تأليف محمود الحفني، كما أنعم عليه بعدة ألقاب.
وفاة سيد درويش:
جاءت وفاة درويش في سبتمبر 1923 عن عمر 31 عام ،ولا يزال سبب الوفاة مجهول، فالبعض قال أنه تعرض للتسمم وبعضهم قال إنه مات إثر سكتة قلبية بينما خمن آخرون أن السبب هو جرعة زائدة من الكوكايين، ودفن درويش في حديقة الخالدين بالاسكندرية.