المطالع لسفر الخروج والمتابع لقصة خيمة الاجتماع, يلاحظ أن الرب أوصي موسي أولا بعمل تابوت العهد اصنع لي تابوتا.. كان ذكر التابوت أول مطلب مع أن التابوت هو آخر قطعة من تكوين الخيمة, وكان من المنطقي أن يبدأ التكليف من الباب وليس من أعمق نقطة في الخيمة, وهذا بالفعل ما عمله موسي لما شرع في تنفيذ المخطط الإلهي, بدأ من الخارج إلي الداخل.
لقد أراد الرب أن يعطي رسالة خطيرة, وهي أن بيني وبينكم يا موسي (يا بشر) قضية موت, مشكلة عويصة يستلزم أن تحل أولا, فالتابوت يشير إليها بقوة, فهو رمز للموت في كل ثقافات الشعوب.
لكن من مراحم الرب, أنه أوصي بوضع قسط المن ولوحي الشهادة (الشريعة) وعصا هارون التي أفرخت, وضع كل هذا في التابوت, وكلها كما نري علامات للحياة بلا منازع! فالمن هو الذي حفظ حياة الشعب في البرية, ولوحي الشريعة بهما كلمات الوصايا المكتوبة بأصبع الله الحي, وعصا هارون تنطق بالحياة بعد جمود ويأس وموات.
ما هذا يا سيد؟ تابوت يوحي بالموت, وحياة مؤكدة يحويها داخله, لكنه في النهاية تابوت!
ومزيد من الغموض والحيرة والانحجاب, اصنع الغطاء يا موسي, وعليه كاروبا مجد مظللان منحنيان بوجههما نحو التابوت. آه يارب, هل في التابوت شجرة الحياة؟ أراك يا آدم أبي وحواء أمي, بل وأري كل بشريتي تتطلع وتتوق إلي شجرة الحياة, وقد انحجبت عنا وقد حرس الطريق إليها كاروب بسيف لهيب نار متقلب يرعب من يقترب أو يحاول, وصوت من الكون ينادي: إياك والاقتراب يا إنسان, أخشي عليك أن تأكل منها فتحيا فاسدا للأبد.
وها هو الرب يرد علي الإنسان مشفقا علي أناته وأشواقه, فيسمي غطاء التابوت كرسي الرحمة, وكأنه يقول سيأتي يوم تزوركم فيه الرحمة تفهمون تدبيري, كيف أحول لكم العقوبة خلاصا, وكيف أنقلكم من الموت إلي الحياة.
لكنه يعود فيصنع حجابا بين القدس وقدس الأقداس, وتكون ومضات الرحمة أن يدخل رئيس الكهنة في يوم واحد من السنة هو يوم الكفارة العظيم, يدخل وقدس الأقداس مظلما إلا من ضوء ينبعث من الجمر المتوهج في المجمرة بيده, يدخل ليعطي بخورا ولينضح بالدم علي غطاء التابوت, كرسي الرحمة, بدم ذبائح الخطية والإثم عن نفسه وعن شعبه, بطول ذلك اليوم كأنه في لجاجة يستعطف الرحمة, ويخرج في النهاية بعد طول انتظار الشعب ومعه رضا من الله لمدة عام, يعتبرونها سنة مقبولة من الرب عبادتهم فيها.
وتمر السنة والكهنة واللاويون كل يوم يجيئون ويروحون بين الدار الخارجية والقدس, يقدمون المحرقات ويرفعون البخور, ويغيرون خبز الوجوه ويتعمدون إطالة الوقت في القدس في تنظيف المنارة الذهبية وتعويض زيتها المتناقص, وتغيير فتائلها السبعة المحترقة وتهيئتها لتنير القدس (في الهيكل صنع سليمان في القدس عشر موائد لخبز الوجوه, وعشر منارات ذهبية) وعيون الكل إلي الحجاب, متسائلين: متي ينزاح لنري التابوت؟
وهكذا لقرون عديدة حتي جاء الحل من السماء, ابن الله الحي الأزلي, المن الحقيقي, كلمة الله, يختار له تابوتا عقليا, قلبا متواضعا, إنسانة من بشريتنا المتشوقة الحزينة, عذراء الروح والنفس والجسد, ترتضي أن تأخذ لقب حواء التي حكم عليها بالولادة بوجع القلب, تتضع وتؤمن وتنحني فتسمع من فم الملاك: افرحي يا ممتلئة نعمة, فتعطي مريم جسدا للابن الكلمة وتحمله إلينا ولما تلده تتفجر الحياة من بطنها, وكأن التابوت ينفجر فيرتفع الغطاء, ليعلن أن ملء الزمان قد جاء, فيولد لنا ولد ونعطي الابن الذي كان ويكون عليه رجاء الشعوب, فهو مشتهي كل الأمم.
الذي لما مات انشق الحجاب, وارتفع غطاء التابوت, فقد خرج المن الحقيقي من قسط الأسرار وصار بالطقس علي المذبح كل يوم, إفخارستيا والخلاص والحياة الأبدية.
والكلمة المكتوبة علي حجر تكتمل من فم يسوع, وتحفر لها في قلوبنا نحن المؤمنين ألواحا لحمية, إذا علمنا الرب الناموس الكامل والوصايا.
وأما عصا هارون فصارت حركة الأجيال كلها نحو السماء من بعد جفاف السنين وجمود الرجاء وسقوط كل أوراقه, لقد كانت بشريتنا فعلا مثل شجرة قهرها خريف غاضب طويل وشتاء عنيف قاس, وها قد أتي عليها ربيع للحياة وصيف مملوء بالحصاد.
كل هذا لأن هارون الحقيقي, رئيس الكهنة الأعظم, ربنا يسوع, قد أزاح الستار وشق الحجاب للأبد, أفني كل الحواجز عن قدس الأقداس بذبيحة نفسه, مرة واحدة وإلي الأبد فأوجد وأسس لنا فداءه الثمين.
فهمنا الآن يا أمي العذراء, لماذا لقبوك بالقبة الثانية التي لقدس الأقداس, وبالتابوت وكل محتوياته, بالقدس وكل مشتملاته.
إخوتي ليتنا نغوص في بحر التشبيهات والتأملات التي حوتها ثيئوطوكية الأحد.
كل عام وأنتم في ملء سلام القلب وفرح الروح.