كثيرون شهد لهم الناس بالعظمة, ولم تكن عظمة حقيقية!
أما يوحنا المعمدان, فإن الذي شهد له بالعظمة هو الله نفسه (مت11:) وملاكه (لو1:15).
قال عنه ملاك الرب الذي بشر أباه زكريا الكاهن بميلاده: ويكون عظميا أمام الرب (لو1:15). عجيبة هذه العبارة جدا أن يكون عظيما أمام الرب هذا الذي أمامه يقف كل إنسان شاعرا بضآلته, كما قال أبونا إبراهيم عزمت أن أكلم المولي وأنا تراب ورماد (تك 18:27).
إن العظمة قد لصقت بيوحنا من قبل أن يولد, بشهادة الملاك.
أعمال عظيمة قد قيلت عن هذا النبي العظيم: منها أنه يرد كثيرين إلي الرب إلههم, يرد العصاة إلي فكر الأبرار, يهيئ للرب شعبا مستعدا, يهيئ الطريق قدام الرب, يتقدم أمامه بروح إيليا وقوته (لو1: 16, 17), وكثيرون يفرحون بولادته (لو1: 14).
وفي كل هذا نسأل الملاك الذي بشر بميلاد يوحنا عن سر عظمته فيجيب بتلك العبارة العميقة الشاملة وهي:
من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو 1:15).
حقا هذا هو سر عظمة يوحنا. سمعنا في الكتاب المقدس أن الروح القدس حل علي كثيرين: حل روح الرب علي شمشون (قض 13: 25), وعلي شاول الملك (10صم10: 10, 11), وعلي داود (1صم 16: 13), وعلي كثير من الأنبياء ولكن لم نسمع مطلقا عن أحد هؤلاء أنه من بطن أمه قد امتلأ من الروح القدس! وليس مجرد حلول, بل امتلاء, هذا الأمر اختص به يوحنا ولعلنا هنا نسأل:
متي امتلأ يوحنا المعمدان بالروح القدس من بطن أمه؟
كان ذلك في قول الكتاب ولما سمعت أليصابات سلام مريم, ارتكض الجنين في بطنها, وامتلأت أليصابات من الروح القدس (لو 1: 41) وصرحت اليصابات وقالت للقديسة مريم: حين صار صوت سلامك في أذني, ارتكض الجنين بابتهاج في بطني (لو1: 44).
في هذه اللحظة, لحظة سلام مريم والدة الإله, امتلأ يوحنا بالروح القدس وهي في بطن أمه.
بالروح أحس بالجنين الإلهي في بطن أمه العذراء, وابتهج به وكأنما قد ركض للقائه!! وقيل إنه ركض بابتهاج, وهذا يذكرنا بقول الرب لليهود أبوكم إبراهيم تهلل بأن يري يومي, فرأي وفرح (يو 8:65).
والعجيب أن أليصابات أحست بأن جنينها قد ارتكض بابتهاج في بطنها!.. يمكن أن تحس جسديا بحركة ارتكض.
أما عبارة (بابتهاج), فقد ظللت حائرا أمامها فترة:
حائرا أمام أمرين: أولهما ابتهاج الجنين… مشاعر جنين في بطن أمه!! والأمر الثاني هو أن الأم تحس بأن حركة جنينها في داخلها هي حركة ابتهاج!!
لا شك أنها موهبة من الروح القدس. إذ قيل عن أليصابات في تلك اللحظة, إنها كانت قد امتلأت من الروح القدس (لو1:41) وبالروح يمكن أن يوهب لها هذا الانكشاف… وهنا تزول حيرتي…
وعظمة يوحنا المعمدان, لم يشهد بها ملاك الرب فقط.
بل أكثر من هذا شهد بها رب المجد ذاته, حينما قال: ماذا خرجتم لتنظروا: أقصبة تحركها الريح؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا: إنسانا لابسا ثيابا ناعمة؟! هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك. لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم: وأفضل من نبي فإن هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك.. الحق أقول لكم: لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (مت 11:7 ـ 11).
قال عنه الكتاب أيضا إنه ملاك, وشهد بهذا السيد المسيح نفسه (مت11: 10) أو هو الملاك الذي يهيئ الطريق قدام الرب (مر1:2) ووردت عنه النبوءة في سفر ملاخي الني: هأنذا أرسل ملاكي, فيهيئ الطريق أمامي (ملا 3:1).
كان أيضا كاهنا من بني هارون ابنا لزكريا الكاهن
ولعل أعظم ما في حياة يوحنا, أنه عمد السيد المسيح له المجد.
أتي إليه السيد المسيح ليعتمد منه كباقي الناس… ومن أجل الطاعة قام يوحنا بعماد المسيح واستحق أن يري الروح القدس بهيئة حمامة وأن يسمع صوت الآب قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (مت 3:16, 17) وهكذا تمتع يوحنا بالثالوث القدوس روحا وحسا…
بل إن الله أرشده إلي السيد المسيح قبل العماد:
وفي هذا يقول القديس يوحنا المعمدان: وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء, قال لي: الذي تري الروح نازلا ومستقرا عليه, فهذا الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله (يو1:23, 24).
وأيضا تظهر عظمة يوحنا المعمدان, في أنه تمم عمله العظيم في مدة قصيرة لعلها أزيد قليلا من ستة أشهر.
هذه الستة أشهر هي الفرق بين عمره وعمر السيد المسيح جسديا حسبما قال الملاك جبرائيل في تبشيره للعذراء بالحبل المقدس وهوذا أليصابات نسيبتك هي أيضا حبلي بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرا (لو1:36).
وكل من المعمدان والسيد المسيح, بدأ عمله في نحو الثلاثين من عمره خدم يوحنا ستة أشهر ولما ظهر المسيح بدأ هو يختفي وفي هذه المدة الوجيزة, استطاع هذا القديس أن يهدي كثيرين إلي التوبة, وأن يشهد شهادة قوية للرب, وأن يمهد الطريق أمام المسيح. كما قدم للعالم كله مثالا عمليا بأن:
قوة الخدمة ليست في طولها, وإنما في عمقها, وفي مدي فاعليتها ومدي تأثيرها وثمرها.
أليس عجيبا أن كثيرا من الخدام النافعين, لا يتركهم الرب يخدمون طويلا!! يكفي أنهم قدموا عينة ممتازة للخدمة والبر, قدموا مثالا يحتذي به واكتفي الرب بما قدموه وأطلقهم بسلام.
وقد قدم يوحنا مثالا ممتازا للخدمة الجادة, وللروحيات العميقة, تنسم منها الله رائحة الرضا, وصرفه بسلام.