دراسة علمية متكاملة لخبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بمناطق آثار جنوب سيناء
فى البداية يؤكد الدكتور ريحان أن طريق شمال سيناء الشريان الرئيسى للمواصلات بين آسيا ومصر لما له من أهمية اقتصادية وإستراتيجية وازدهرت مدن غزة ، (رافيا) رفح ، رينوكورورا (العريش) أوستراكين (الفلوسيات) ، القلس (تل المحمدية) بيلوزيوم (الفرما) كمحطات للتجارة بين الشرق والغرب من القرن الأول حتى القرن السابع الميلادى ، وكان بهذه المدن أنشطة تجارية محلية ، وبعضها موانئ هامة ، وبعضها نقاط عسكرية لحماية قوافل التجارة ورحلات الحج المسيحى إلى القدس عبر سيناء وبعضها نقاط جمارك
وينقسم طريق شمال سيناء إلى ثلاثة طرق
1 – الطريق الساحلى والذى يبدأ من رفح ليسير على ساحل البحر أو قريبا منه حتى يصل بحيرة سربنيوس (البردويل) ويستمر على ساحل البحر إلى مدينة بيلوزيوم عند مصب فرع النيل البيلوزى .
2 – طريق الرمل ويأتى من الشام إلى رفح ليسير فى منطقة الكثبان جنوب الطريق الساحلى.
3 – طريق جنوب منطقة الكثبان ويسير فى السهول المتسعة بين الكتل المرتفعة إلى المنطقة الرملية شرق قناة السويس.
ويوضح الدكتور ريحان أن الطريق الساحلى أقدمها حيث كانت التجارة والغزوات تفضله لقلة رمله واعتدال هوائه كما تسهل حمايته من ناحية البحر ،مما جعل له أهميته الحربية فى الفترة الرومانية واليزنطية وازدادت أهميته فى عهد جستنيان فى القرن السادس الميلادى الذى اهتم بتأمين حدود بلاده الشرقية ،وهذا الطريق هو الذى سلكته العائلة المقدسة وسلكه المسيحيون القادمون من القدس عبر شمال سيناء فى طريقهم إلى جبل سيناء واستمر استعماله فى العهد الإسلامى وذلك مما عثر عليه فى أوستراكين من أوانى فخارية تعود للقرن السابع الميلادى.
رافيا(رفح)
فى البداية يذكر الدكتور ريحان أن رفح تبعد 50كم عن العريش وذكرت فى النصوص المصرية القديمة (را – بح) وينقل نعوم شقير عن المؤرخ يوسيفوس أنه ذكرها باسم رافيا وأنها أول محطة استراح فيها الإمبراطور الرومانى تيتوس فى طريقه لمحاصرة القدس سنة 70م ،ويذكر نعوم بك شقير الذى زار سيناء عام 1906 وكتب كتاب تاريخ سيناء (أنها لا تزال خرابًا وأرضها تزرع شعيرًا،وقد طمرت الرمال معظم آثارها ومع ذلك فالقليل من الظاهر فوق الأرض من خرائبها يدل على ما كانت عليه قديما من الثروة والعز وأشهر آثارها الباقية إلى الآن أعمدة من الجرانيت الأسود وكسر من حجارة البناء الصلبة وكسر آنية الفخار والزجاج على أنواعها والفسيفساء وهرّابات الماء وقطع النقود الفضية والنحاسية والزجاجية (يقصد صنج العملة) من عهد الرومان والبيزنطيين والدول الإسلامية الأولى وآبار قديمة وحديثة وجبانة قديمة وقبور أولياء).
ويشير الدكتور ريحان إلى أن نعوم شقير عثر برفح على تحف فنية من الفترة المسيحية يصفها كالآتى (قطعة من ثمثال صغير من الرخام الأبيض الناصع وهو تمثال فارس بيده رمح وقطعة تمثال صغير من الرخام يشبه أن يكون تمثال مريم العذراء وقطعة من حجر طباشيرى عليه كتابة باليونانى القديم وأنواع كثيرة من النقود النحاسية القديمة) وقد عثر الأهالى فى عام 1952 عند بحثهم عن أحجار للبناء على بعض المبانى من بينها حمام رومانى وأعمدة ذات تيجان كورنثية وبعض التماثيل التى وصل بعضها لمصلحة الآثار فى ذلك الوقت.
بيتلون (الشيخ زويد)
ويشير الدكتور ريحان إلى أن الشيخ زويد هى المحطة الثانية فى مسار العائلة المقدسة تبعد 25كم شرق العريش ، وتقع شمال القرية جبانة قديمة فيها قبة الشيخ زويد الذى سميت القرية على إسمه ويقولون أنه من الصحابة ، وعلى باب القبة حجر من الرخام عليه كتابة بالعربية نصها كالآتى (بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذه القبة المباركة إن شاء الله تعالى أمير اللوا الأمير محمد بك باش الخزين الواقف عليه حضرة على أحمد أغا ،وذلك فى شهر (صفر سنة 1063هجرية الموافق يناير 1653م).وقد قام عالم الآثار الفرنسى كليدا Cledat بإجراء حفائر بالشيخ زويد عام 1913وعثر على فسيفساء ترجع إلى العصر الرومانى معروضة الآن بمتحف الإسماعيلية .
رينوكورورا (العريش)
يوضح الدكتور ريحان أن العريش ذكرت بهذا الإسم فى العصر الرومانى وأنها كانت مكانًا ينفى إليه المجرمون بعد جدع أنوفهم ولهذا أصبح اسمها رينوكورورا ومعناه المقطوعى الأنوف، أما العريش فهو الإسم الذى أطلقه عليها العرب والظاهر أن أهلها قديما كانوا يسكنون فى مظال من القش اليابس كما يفعل أهل البادية اليوم فى الصيف فسميت أماكنهم بالعريش وهذا الإسم ما يزال يطلق هناك على مظال القش إلى الآن.
ويؤكد الدكتور ريحان أن العريش محطة رئيسية على ذلك الطريق ،وذلك لوقوعها عند تلاقى طريق البتراء بطريق بلاد الشام ووفرة المياه الصالحة للشرب ووجودها على مصب وادى العريش حيث يمكن أن يقوم حولها شئ من الزراعة وأشار إليها جغرافيو العرب كلهم ،واعتبروها سوقًاعظيمة وقد لقيت هذه المحطة عناية الرومان وكان بها كنيسة كبيرة وينقل عن أبى المكارم الذى كتب عن تاريخ الكنائس والأديرة فى القرن الثانى عشر الميلادى قوله (بجهة العريش كنيستين كبار من قديم الزمان وهما خراب وجدرانهما باقية إلى وقتنا نحن وسور البلد الذى من جانب المالح باقى إلى الآن)، كما ذكر أن جميع الرخام والأعمدة التى بمصر معظمها من العريش.
وبالعريش بقايا قلعة أنشأها السلطان سليمان بن سليم بن بايزيد بن عثمان 968هـ – 1560م مبنية بالحجر الرملى الصلب مستطيلة الشكل طول الضلع الشرقى 75م والشمالى 85م وكان ارتفاع سورها 8م بقاياها ما زالت قائمة.
كنائس أوستراسينى (الفلوسيات)
يشير الدكتور ريحان إلى أن الفلوسيات هى المحطة الرابعة فى مسار العائلة المقدسة بشمال سيناء وتقع فى الطرف الشرقى من بحيرة البردويل 3كم من شاطئ البحر المتوسط 30كم غرب العريش وكانت أوستراسينى منطقة عامرة فى العصر المسيحى وكان لها أسقف وعندما أراد الإمبراطور جستنيان تحصين مناطق سيناء ضد غزو الفرس كانت أوستراسينى من بين المناطق التى أقيمت فيها الحصون ووصلت المبانى فى عهده إلى البحر وأصبحت المدينة مركزًا لكرسى دينى هام.
ويوضح د. ريحان أن الآثارى الفرنسى كليدا أكتشف عام 1914 كنيستان بالفلوسيات، الشمالية لا تزال بقاياها تدل على تخطيطها مستطيلة طولها62م من الشرق للغرب وعرضها 22م وكانت أرضيتها مغطاة بالرخام بسمك 10سم وقد استخدم فى بنائها الحجر الكلسى الرسوبى الناتج من الترسيبات البحرية التى تنتشر بالساحل الشمالى بشمال سيناء وخاصة غرب العريش بالإضافة إلى الحجر الجيرى المجلوب من منطقة المغارة جنوب العريش والرخام والجرانيت من أسوان أو روما أو أثينا وهى كنيسة على الطراز البازيليكى مكونة من صحن أوسط وجناحين جانبيين، كما تضم الفلوسيات بقايا كنيسة غربية.
كاسيوس (القلس)
وينتقل بنا الدكتور ريحان إلى المحطة الخامسة فى مسار العائلة المقدسة وهى القلس التى تقع على شاطئ البحر المتوسط فوق المنحنى الذى تقع على جنوبه بحيرة البردويل على مسافة 38كم غرب الفلوسيات، وقد شهد هذا المكان حادثة قتل القائد الرومانى بومبى على يد رجال بطليموس الثانى عشر أخى كليوباترا بعد أن وعدوه بالحماية والمعونة وأمر الإمبراطور هادريان عام 122م ،عند مروره بهذا المكان فى طريق عودته من سوريا بأن يبنى فيها معبد للإله زيوس تخليدًا لذكرى بومبى الذى مات هناك، ويشير كتّاب الفترة الرومانية والبيزنطية إلى وجود حصن ومعبد هام بها كما يشير بعض كتاب العرب إلى وجود حصن للمسيحيين بها.
جرها (المحمدية)
وينوه د. ريحان إلى المحطة السادسة وهى المحمدية التى تقع على شاطئ البحر عند الطرف الغربى لبحيرة البردويل وطبقًا لما ذكره الدكتور أحمد فخرى فإن بها بقايا حصن كبير فوق رابية مشرفة على البحر وبقايا مبانى كثيرة ولا يوجد على سطح الأرض ما يمكن تأريخه إلى أبعد من بداية العصر المسيحى وهى دون شك موقع ميناء جرها التى ورد ذكرها كثيرًا فى العصر البيزنطى وقد قام كليدا بأعمال حفائر بها عام 1910 وكان يعتقد خطأ أنها موقع مدينة كاسيوم .
وبالمحمدية خرائب وأكوام كبيرة تدل على عظم هذه المحطة واتساعها وبقايا الحصن القائم هناك تدل على أنه كان حصنًا كبيرًا لا تزال حوائطه باقية، كما تمتد بقايا المبانى داخل البحر إلى مسافة بعيدة عن الساحل يستفيد منها الصيادون فى مهنتهم حيث تأوى إليها الأسماك ،وأغلب مبانى المحمدية من الطوب الأحمر مع وجود مبانى من الحجر ويصفها نعوم بك شقير بأنها خرائب مدينة فخمة قديمة العهد مبنية بالحجر المنحوت والطوب الأحمر على شاطئ البحر المتوسط، وهناك قصر جميل بحمامات على أجمل طراز قائم على تل مرتفع وجبانة شمال التل فيها قبور كثيرة حسنة الصنع وقد تحول البحر على تلك الخرائب فغمر أكثرها.
بيلوزيوم (الفرما)،
ونصل إلى نهاية الرحلة بسيناء بمدينة الفرما ويوضح الدكتور ريحان أنها تبعد 35كم شرق مدينة القنطرة شرق على شاطئ البحر المتوسط عند قرية بلوظة ،وتبعد الآثار المكتشفة بالفرما 5كم عن الطريق الرئيسى طريق القنطرة – العريش.
ويتابع الدكتور ريحان أن الفرما كان لها دورًا عظيمًا فى تاريخ المسيحية حيث تنسك فيها القديس إبيماخس الشهيد، ثم توجه إلى الإسكندرية فى عهد الإمبراطور داكيوس فقبض عليه الحاكم أبليانوس وقتله عام 251م وفى عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثانى 409-450م قام فيها عالم يدعى إيسودوروس الذى كتب عدة مقالات فى الدين وجهها إلى أعدائه وأحبائه ،وأطلق عليه إيسودوروس الفرمى وهو من مواليد الإسكندرية.
ويشير الدكتور ريحان إلى أنه فى طريق الفرما سار عمرو بن العاص لفتح مصر سنة 19هـ ، 640م فنزل العريش ثم أتى الفرما ،وأن بلدوين الأول ملك الصليبيين وصل إلى أعمال الفرما فأرسل الأفضل بن أمير الجيوش إلى والى الشرقية أن يقابلهم فلما وصلت العساكر تقدمها العربان وطاردوا الصليبيين ،وعندما علم بلدوين بذلك أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد ،وعزم على الرحيل فأخذه الله سبحانه وتعالى فكتم أصحابه موته وساروا بعد أن شقوا بطنه وملؤها ملحًا حتى بقى إلى بلاده فدفنوه بها ،وقد كشفت منطقة شمال سيناء عن مسرح رومانى ضخم بالجهة الجنوبية من الفرما وعن حمامات ساخنة وباردة مبنية بالطوب الأحمر فى الجهة الشمالية من الفرما.
ويوضح الدكتور ريحان أن الفرما تضم مجمعًا للكنائس بتل مخزن الذى يقع فى الجزء الشرقى من مدينة الفرما وقد وصف كليدا التل عام 1909 وأول حفائر به قامت بها منطقة شمال سيناء للآثار الإسلامية والقبطية عام 1988 ومن خلال ثلاثة مواسم حفائر تم اكتشاف كنيسة بازيليكا يتقدمها آتريوم يتكون من فناء مساحته 31.50م طولاً 15م عرضاً يفتح عليه مجموعة من الحجرات وهى على طراز البازيليكا وتضم حجرات جانبية ربما تكون مخصصة للزوار من
ويشير إلى كنيسة الفرما التى تقع فى الجزء الشمالى من المدينة وكشفت عنها حفائر منطقة جنوب سيناء للآثار الإسلامية والقبطية عام 1985حيث تم كشف بناء يتكون من وحدتين معماريتين مختلفتين فى التصميم ولكنهما مرتبطتين ببعضهما البعض والمبنى كله يشكّل وحدة معمارية متكاملة لكنيسة
كما تم الكشف عن معمودية تقع بالجهة الشمالية الغربية خارج المبنى الغربى وهى عبارة عن بناء من الطوب الأحمر على شكل صليب متساوى الأضلاع داخل دائرة قطرها 4.70م كانت جدرانها مكسوة بالرخام من الخارج تتضح بقاياه فى جوانب الحوض وكانت أرضيتها مبلطة بالفسيفساء للعثور على عدد كبير من قطع الفسيفساء الرخامية والحجرية بألوان مختلفة فى نفس المكان