المكان:
علي أن الله بارك أبانا إبراهيم في المكان الذي اختاره الرب.
كانت بركة الرب له نتيجة لهجرته التي أمره الرب بها, وفي الموضع الذي عينه الرب, يذكرنا هذا بتلك العبارة التي قيلت في سفر النشيد .. هناك أعطيك حبي (نش 7: 12), ويقول الرب للمريمتين بعد القيامة قولا لإخوتي أن يذهبوا إلي الجليل, وهناك يرونني (مت 28: 10).
إن الله يحدد المكان الذي نراه فيه, والذي يعطينا فيه حبا, فليس كل مكان يمجد الله, وليس كل مكان نري فيه الله.
يذكرنا هذا أيضا بأن بعض الكهنة يختارون مكانا يخدمون الله فيه, وقد يصرون علي مكان معين, ويرفضون مكانا آخر!!
إن إبراهيم مثال للشخص الذي لا يختار لنفسه مكانا, لا من جهة البقاء في أور, ولا من جهة المكان الذي هاجر إليه, ولا المكان الذي يعيش فيه عندما حدث خلاف بين رعاته ورعاة لوط, بل ترك الأمر لحرية اختيار لوط (تك 13: 8, 9).
المكان الذي يختاره الرب لنا, هو المكان الأصلح, إن كانت لنا حياة التسليم, وهكذا حدث حينما اختار الله لبولس الرسول أن يخدم في مقدونية (أع 16: 6-10).
قال الرب لأبرآم اذهب.. إلي الأرض التي أريك (تك 12: 1), ولم يره الأرض وقتذاك, وتركه يذهب وراءه إلي المجهول.
يكفي دعوة الرب أن نذهب وراءه, وليس لنا أن نتأكد من المكان, المكان الذي يكون الرب فيه, ويرعانا فيه, هو المكان الصالح.
قال الرب لسمعان وأندراوس هلم ورائي… (مت 3: 19), ولم يقل لهما إلي أين, ولا هما سألاه إلي أين؟! وإنما تركا شباكهما, وتبعاه, وقال لمتي – وهو في مكان الجباية – اتبعني (مت 9: 9), ولم يقل له إلي أين يتبعه, ولا سأله متي عن ذلك, وإنما قام وتبعه..
وهكذا فعل أبونا إبراهيم, وكأنه يقول للرب: أنا لا أسألك يارب عن المكان الذي تقودني إليه, يكفي أنك تكون معي فيه.
قد يحدد الرب مكانا يختلي فيه مع من يحبه, كما اختار جبل سيناء حيث التقي مع موسي النبي, وسلمه الشريعة وحيث لمع وجه موسي بالنور حتي احتاج إلي برقع ليستطيع الناس أن ينظروا إليه (خر 34: 29-35).
لقد اختار لوط لنفسه الأرض المعشبة, وكان اختيارا رديئا.
وقال عنه الكتاب: كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم, يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالأفعال الأثيمة (2 بط 2: 8), ثم حدثت له هناك تجربتان: الأولي سبي سادوم, حيث وقع مع أهلها في السبي, ونجاه أبرآم الذي لم يختر لنفسه مكانا (تك 14: 11-16), والثانية حرق سادوم ونجاته بأعجوبة بشفاعة إبراهيم.
نلاحظ في دعوة إبراهيم مشكلة رفقائه, إذ أمره الرب ليس فقط أن يترك أرضه, وإنما أيضا بيت أبيه ولكنه سلك في ذلك بالتدرج, إذ أنه ترك أرضه, ولكنه كان معه أبوه تارح, ولوط ابن أخيه هاران (تك 11: 31) (تك 12: 5).. ولذلك لم يسترح إلا بعد أن انفصل عن هذين: عن أبيه تارح الذي مات في حاران (تك 11: 32) وعن لوط ابن أخيه الذي تركه وسكن في سادوم (تك 13: 12).
ترك من أجله:
المهم أن أبانا إبراهيم بدأ حياته مع الله بترك أرضه وعشيرته.
ونفس الوضع كان بالنسبة إلي الآباء الرسل: لم يكتفوا بأن تركوا الشباك وتركوا السفينة كصيادين وتبعوا الرب (تك 3: 20, 22), وإنما قال القديس بطرس أيضا للرب ها قد تركنا كل شيء وتبعناك (مت 19: 27).
وأنت ماذا تترك من أجل الرب؟ تترك حياتك الخاطئة بالتوبة, وتترك من مالك العشور والبكور وما يطلبه منك المحتاجون وتترك شهوة الطعام بالصوم, وتترك من وقتك يوما للرب وأجزاء من وقتك للصلاة والعبادة, وتترك أصدقاء السوء كما يأمر المزمور (مز 1), بل تترك أهل بيتك إن انطبق عليهم قول الرب أعداء الإنسان أهل بيته (تك 10: 36), أو إن انطبق عليهم قول الرب أيضا من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني (مت 10: 37).
علي أن أبانا إبراهيم لم تقتصر حياته علي عنصر الترك من أجل الرب, إنما كانت له فضائل كثيرة.
فضائل إبراهيم:
أول ما نذكره في فضائله: حياة الطاعة والتسليم: فلما دعاه الرب إلي ترك أرضه وعشيرته, أطاع وهو لا يعلم إلي أين يذهب (عب 11: 8), ولما أمره الرب أن يقدم ابنه وحيده إسحق محرقة لم يتوان, بل أخذه معه وأخذ الحطب والسكين ورفع يده ليذبحه (تك 22: 9, 10).
يتميز إبراهيم بفضيلة أخري هي الكرم: فلما جاءه ثلاثة ضيوف اختار عجلا رخصا وسلمه للغلام ليطبخه, بينما كان يكفي الثلاثة أن يذبحوا لهم ديكا أو علي الأكثر ماعزا أو خروفا, كما أمر بتقديم ثلاث كيلات دقيق لتصنع لهم خبزا, بالإضافة إلي ما قدمه من لبن وزبد (تك 18: 6-8) كل ذلك ليأكل الضيوف ويأكل أيضا الرعاة والخدم فرحا بقدوم الضيوف.
يتميز إبراهيم أيضا بالتواضع: فلما أتاه الضيوف سجد لهم إلي الأرض وغسل أرجلهم وقال لهم: آخذ كسرة خبز, فتسندون قلوبكم ثم تجتازون لأنكم قد مررتم علي عبدكم (تك 18: 2-4), كذلك سجد لبني حث (تك 23: 7) في مناسبة شرائه أرضا منهم لتكون مقبرة.
تميز إبراهيم أيضا بالنخوة والشجاعة وظهر ذلك واضحا في قصة سبي لوط مع أهل سادوم إذ يقول الكتاب فلما سمع أبرآم أن أخاه قد سبي, جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر, وتبعهم إلي دان, واسترجع كل الأملاك ولوطا أخاه أيضا (تك 14: 14-16).
وفي ذلك الحادث تميز بعفة اليد أيضا فلما عرض عليه ملك سادوم أن يأخذ الأملاك التي استردها رفض قائلا: لا آخذ منك خيطا ولا شراك نعل, فلا تقول أنا أغنيت أبرآم (تك 14: 23).
وتميز أيضا باحترام الكهنوت مع أنه كان كاهنا لأسرته فسمح لملكي صادق كاهن الله العلي أن يباركه وقدم له إبراهيم العشور (تك 14: 18-20).
وتميز إبراهيم أيضا بأنه رجل المذبح, ففي كل مكان ينتقل إليه, كان يبني مذبحا للرب ويصعد له محرقات (تك 12), وكان رجل الخيمة التي تمثل في سيرته حياة الغربة, إذ ليست لنا هنا مدينة باقية.
وكان يتميز أيضا بالشفاعة في غيره, واللجاجة مع الله في ذلك.
وقد ظهر هذا بوضوح في شفاعته في أهل سادوم, بدالة كبيرة, حتي قال له الله أخيرا: إن وجد فيها عشرة, لا أهلك المدينة لأجل العشرة (تك 18: 23-32).
وتميز إبراهيم ببعده عن الخصومة, ويظهر ذلك في علاقته مع لوط (تك 13), وفي علاقته الطيبة مع زوجته سارة.