منذ سنوات قليلة كنت أقرأ أخبارا عن “اليوم العالمي للسعادة” وإعلان الأمم المتحدة الدول الأكثر سعادة في العالم، وفي كل مرة كنت أقرأ الخبر بشكل روتيني، وحتى عندما عرفت أن مصر تأتي في مرتبة متأخرة جدا لم أتوقف عند ذلك لأن مصر كانت تمر في السنوات الأخيرة بأزمات طاحنة نعلمها جميعا، ولكنني عندما قرأت تقرير الأمم المتحدة للعام الحالي 2018 عن السعادة في دول العالم والذي يضم 156 دولة.
وعرفت أن قارة أوروبا والدول الاسكندينافية خاصة تتصدر قائمة الدول الأكثر سعادة (فنلندا- النرويج – الدنمارك ).. وعرقت أيضا المقاييس التي يتم من خلالها تقييم المشهد في كل دولة.. استوقفني هذا الأمر وقررت ألا يمر مرور الكرام مثلما كان يمر على كل عام، وتفجر بداخلي بركان من التساؤلات حول مفهوم السعادة. ربما لم يتولد بداخلي كل هذا الفضول لأنني كنت قد قرأت منذ سنوات طويلة تعريفا للسعادة في احدي الروايات العالمية على أنها “السلام والأمان”، واعتبرت هذا التعريف هو حجر الأساس للسعادة واكتفيت به، لكنني بدأت أتساءل بعمق وشغف ما هي مفاهيم السعادة الأخرى؟ ترى لو سألت شاعرا سيقول لي أنني أشعر بالسعادة كلما انتهيت من كتابة قصيدة جديدة؟ ولو سألت فنانا تشكيليا سيقول أنني أكون في قمة السعادة كلما أضع اللمسات النهائية للوحة جديدة؟ وماذا يقول رجال السياسة؟ هل يجدون سعادتهم في السلطة والمناصب أم في خضوع الجماهير لهم؟ وأتساءل أيضا هل السعادة في المال؟ في الشهرة؟ في النجاح؟ في الحب؟ في الفن؟
تنزهت بين أفكار الفلاسفة علها تغذي عقلي وتنير لي الطريق، فاصطدمت في البداية بعشاق” القوة” ونظرية البقاء للأقوى، وتساءلت أين تكمن القوة؟ هل هي قوة البدن أم قوة الذكاء أم قوة الإرادة؟ وتذكرت على الفور أفلاطون.. الفيلسوف اليوناني العظيم الذي يدعو البشرية للمباديء الأخلاقية السامية، وهو صاحب فكرة المدينة الفاضلة، وقد تمنيت أن أدخل إلى هذه المدينة وأعيش فيها أو أنشيء مثلها أن استطعت، لكنني توخيت الحذر عندما علمت أن كل من يريد أن يعيش في تلك المدينة عليه أن يخضع لقواعد صارمة، صحيح أن الحياة هناك قائمة على العدل وتوافر الحقوق للجميع لكن كل فرد عليه أن يمارس عمله حسب ما تؤهله له قدرته البدنية والذهنية، وعليه أن يرضى بذلك دون أن ينظر إلى الآخرين ويقارن نفسه بهم، ومن هنا تختفي الغيرة والأنانية والحقد والبغضاء والتشاحن، ولا يكون هناك تجاوز أو عدوان أو حروب في تلك المدينة. والمجتمع السعيد في نظر أفلاطون هوالذي تتحلي قياداته بالقيم والمباديء الأخلاقية السامية.
ويؤكد أفلاطون أن السعادة التي تأتي من المال والسلطة والقوة الجسمية فهي ليست سعادة حقيقية لأنها زائلة.
وتذكرت أن أفلاطون هو تلميذ سقراط فماذا قال سقراط عن السعادة؟ “سر السعادة لا يتم في السعي إلى المزيد بل في بل في تنمية القدرة على التمتع بالأقل” وهو بذلك يدعونا إلى عدم الانسياق وراء الماديات ويطلب منا أن نقنع ونسعد بالأمور والأشياء البسيطة في حياتنا، ويؤكد على هذه النظرية الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل بقوله “لقد تعلمت البحث عن سعادتي بالحد من رغباتي لا بمحاولة إرضائها”.
وفي طريقي للبحث عن أجمل مفاهيم السعادة ذهبت إلى القائد الهندي العظيم الذي أدهش العالم بحكمته.. أنه المهاتما غاندي ( اسمه الأصلي موهانداس كرمشاند غاندي ) الذي استطاع أن يخلص بلده من الاستعمار بالمقاومة السلمية.
وجدته يقول :”السعادة هي عندما يتوافق فكرك وقولك وفعلك – لو لم يكن لدي حس فكاهي لكنت قد انتحرت منذ فترة طويلة – ليس كل سقوط نهاية، فسقوط المطر أفضل بداية – رماني الناس بالحجارة فجمعتها وبنيت بيتا”. هكذا بحكمته تحدي المهاتما غاندي كل الصعاب وقاد شعبه إلى الحرية والسعادة.
وجاءني هاتف، ألعل السعادة في أعمال الرحمة؟ في التو تذكرت الأم تريزا .. الراهبة الهندية ألبانية الأصل التي كرزت حياتها لخدمة المرضى وحتى المصابين بأمراض معدية، وكانت تجوب العالم لتخدم الفقراء والأطفال والضعفاء. وجدتها تقول “السعادة شبكة من الحب يمكنك عن طريقها اصطياد الأرواح” “هناك الكثير من الجوع في العالم ليس للخبز بل للحب والتقدير”، “لا يمكننا في هذه الدنيا أن نقوم بأعمال عظيمة، لكن يمكننا أن نقوم بأعمال صغيرة بحب عظيم” !!
وأعود لأقدم لكم نبذة سريعة عن قصة الدول الأكثر سعادة ويوم السعادة العالمي الذي حددت الأمم المتحدة موعده يوم 20 مارس من كل عام لأن هذا اليوم يتزامن مع تساوي الليل والنهار أو ما يطلق عليه اعتدال مارس، إذ تبلغ ساعات النهار فيه 12 ساعة ومثلها تقريبا ساعات الليل. بدأ الاحتفال بيوم السعادة العالمي لأول مرة عام 2013 وذلك بعد اقتراح قدمه المستشار جايمي ايلين واعتمدته الأمم المتحدة في دورتها السادسة والستين يوم 28 يونيو 2012 التي كانت تحت شعار “السعادة ورفاهية المجتمع والنموذج الاقتصادي الحديث”، وهنا جاء قول بان كي مون:”أن العالم بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد يحقق التكافؤ بين دعائم الاقتصاد الثلاث: التنمية المستدامة والرفاهية المادية والاجتماعية وسلامة الفرد والبيئة”، هكذا جاء تعريف بان كي مون للسعادة معتمدا على التنمية والاقتصاد والأمن والأمان.
ترتكز التصنيفات العامة لسعادة الدولة علي نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة جالوب حول العالم، وأهم معاييرسعادة السكان هي نصيب الفرد من الناتج المحلي والرعاية الاجتماعية وغياب الفساد، وكشف التقرير أنه للمرة الأولى منذ بدء المؤشر صنف تقرير 2018 سعادة المهاجرين، وظهر أن فنلندا يقطنها أسعد المهاجرين في العالم.
ويبلغ عددهم حوالي 300 ألف مهاجر، وها هي قائمة العشرة دول الأكثر سعادة : فنلندا – النرويج – الدنمارك – أيسلندا – سويسرا – هولندا – كندا – نيوزيلاندا – السويد – استراليا.
وقد أشار مايك وايكنج .. الرئيس التنفيذي لمعهد أبحاث السعادة، إلى أن فنلندا أفقر بكثير من البلدان المتطورة الأخرى التي شملها المسح لكن فنلندا تحول ثروتها إلى سعادة أفضل بكثير من دول أخرى، ولحسن الحظ أن التقرير أكد في الفصل السادس أحد أسباب السعادة بعيدا عن العوامل الاقتصادية، ففي أمريكا اللاتينية تعتمد السعادة على دفء الحياة العائلية والعلاقات الاجتماعية المتنوعة وينتهي التقرير إلى ثلاث مشاكل صحية ناشئة تهدد السعادة: السمنة أو البدانة، تعاطي المخدرات، والاكتئاب، ورغم أن هذه المشاكل وضعت في سياق عالمي إلا أن معظم الأدلة والمناقشات تركز على الولايات المتحدة.
وقد حافظت الإمارات العربية المتحدة على مركزها الأول بين الدول العربية، واحتلت المرتبة العشرين عالميا مباشرة بعد بريطانيا، والمعروف أن دبي أسست وزارة للسعادة منذ عام 2016، وهي ترصد مدي رضا الجمهور عن الخدمات المقدمة من خلال أجهزة مراقبة مثبتة في جميع الدوائر الحكومية.
والأمر المثير للجدل أن الصومال وليبيا والعراق وفلسطين.. وهي دول تعاني أزمات معروفة.
جاءت في مرتبة متقدمة عن مصر !!! حيث جاءت ليبيا في المرتبة الـ70 ، والصومال 98 ، وفلسطين 104 ، والعراق 117 ، بينما تأتي مصر في المرتبة 122 !!!
وعدت أقول لنفسي أن هذه الأرقام لا تزعجني ولا تدعوني لليأس، فكل ما يعنيني أنني مصرية أعتز بوطني وشعبي وتاريخي، أعتز بالماضي والحاضر، أنحني احتراما لأجدادي العظماء.
وأبعث تحياتي للأجيال القادمة، فأبناء مصر القادمون هم الأفضل والأجمل، لأنها مصر التي يفخر بها الشرق ويشيد بها الغرب، مصر التي أدهشت العالم بحضارتها وفنونها الجميلة وصلابة أبنائها وقت المحن، أنها مصر التي أنجبت نجيب محفوظ و الدكتور أحمد زويل و الدكتور مجدي يعقوب وأحمد شوقي وأحمد رامي ، والعقاد ويوسف الشاروني، ويعقوب الشاروني، ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس.
وأيضا هي مصر التي أنجبت أم كلثوم و سيد درويش و عبدالوهاب وسيد مكاوي وثلاثي أضواء المسرح (جورج سيدهم والضيف احمد وسمير غانم)، والثلاثي المرح ونجاة الصغيرة ووردة وفايزة أحمد، إنها مصر التي أنجبت يوسف شاهين و فاتن حمامة وماجدة وشادية، وسعاد حسني، و يوسف وهبي وأمينة رزق، وإسماعيل ياسين وفؤاد المهندس وشويكار وعبد المنعم مدبولي ووأمين الهنيدي ومحمد صبحي ومحمد هنيدي وهاني رمزي، وأبلة فضيلة وباباشارو.. مصر التي أنجبت حسام حسن وإبراهيم حسن ومحمد صلاح وأبو هيف وفريدة عثمان، ونور الشربيني، أوليست هي مصر الأهرامات وثلثي مخزون الآثار في العالم ؟ مصر النيل وقناة السويس والواحات والشواطيء الساحرة ؟!
تدفق في ذاكرتي فيضان من الأفلام الغنائية والكوميدية، وتأملت تراثنا الفني واكتشفت ثراءه بأغنيات كثيرة عن السعادة، وقفزت الي ذهني أغنية الفنان العظيم إسماعيل ياسين من تاليف أبو السعود الابياري: كلنا عايزين سعادة.. بس إيه هي السعادة ؟.. قول لي يا صاحب السعادة قول لي قول لي. وأغنية ليلى مراد : اتمخطري واتمايلي يا خيل وارقصي ويا عرايس الليل ! وتجسد أمامي استعراض السعادة في فيلم “أربع بنات وظابط ” بطولة نعيمة عاكف وأنور وجدي، قدمت هذا الاستعراض المبهج كل من نعيمة عاكف ورجاء يوسف وعواطف يوسف ولبلبة، يقول مطلع الأغنية : “السعادة السعادة السعادة.. نتحرم ليه م السعادة.. دي الحياة سكر زيادة.. ليه كده تخلوها سادة ؟” هكذا تتغني فتيات يتيمات وتدعون العالم لفتح الأبواب للأمل والبهجة والسعادة!
وعندما يغني عبد الحليم حافظ “وأمانة يا دنيا أمانة.. تاخدينا للفرحة أمانة ألا يعبر ذلك عن الأمل والرجاء؟ وعندما يغني: “ضحك ولعب وجد وحب.. عيش بالروح والعين والقلب.. عيش أيامك عيش لياليك.. خلي شبابك يفرح بيك “ألا يقدم بذلك روشتة للسعادة؟ وماذا عن أغنيات الأعياد؟ “الليلة دي عيد”، “يا ليلة العيد آنستينا”، ” العيد فرحة”، ألا يستطيع الشعب المصري أن يفرح ويحتفل بالأعياد ؟
ولازالت عبقرية سيد درويش خالدة في ذاكرة الأمة العربية كلها، فهو الذي غني مع العمال والشيالين ، وغنى للمرأة وانتقد الاحتلال بخفة ظل مدهشة؟ ولازالت الأجيال المتتالية تشدو بأغنياته الرائعة التي جففت عرق الكادحين وأسعدت المتعبين وسكنت آلامهم، لازلنا نغني جميعا “طلعت يامحلا نورها”، “الحلوة دي قامت تعجن في البدرية”، “شد الحزام على وسطك”، يا عزيز عيني”، الصحبجية” ، “أهو دا اللي صار” خفيف الروح بيتعاجب” ، “زوروني كل سنة مرة”، والأهم من كل ذلك النشيد الوطني الذي تخفق له القلوب: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.
نعم يا حضرات السادة المستشارين هذه هي مصر، ولعلها البلد الوحيد في العالم الذي تنطلق فيه الزغاريد من أفواه أمهات الشهداء في الكنائس !!! نعم مصر تبتسم رغم الألم ورغم كل المحن، ولا تستسلم لليأس أبدا، مصر لازالت تقدم الأمل والرجاء والإيمان والفرح الحقيقي غير المزيف. نعم مصر تصدر السعادة للعالم، لكن تقرير الأمم المتحدة يقول غير ذلك، فلو سألنا ما السبب هل سيكون الرد: من غير ليه؟!!! هل تريد معرفة روشتة السعادة؟
أخصائية الصحة النفسية بسمة محمود: سر السعادة في إشباع احتياجات هرم ماسلو