أصحاب السيادة الآباء الأساقفة والمطارنة الأجلاء ،
الآباء الكهنة والرهبان والراهبات الأحباء
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء :
في كل عام نلتقي بمناسبة اسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، الذي بدأ تنظيمه منذ أكثر من مائة سنة. وقد كان له الفضل الكبير في تقريب القلوب بعضها من بعض ، وتقريب الأفكار والنوايا بقوّة الروح القدّس وبنعمة يسوع المسيح، فأثمر هذا التقارب وأنهى بين الكنائس عهد البغض والإنقسام الحاد وتراشق التهم، وبدأ عهد المحبّة والتلاقي والتفاهم والرضى، على رجاء بأن تتمّ الوحدة، كما يريدها الله، وعندما يريدها. وعلينا نحن أن نصلّيَ من أجلها، كما صلّى يسوعُ المسيح ، ليلة إقباله على الموت، حين قال : ” يا أبتاه ، واحدًا كما أنت وأنا واحد ” . ما صنعه يسوع في بستان الزيتون من صلاة للأب من أجل وحدة تلاميذه، نصنعه نحن اليوم، بنعمة يسوع المسيح وبركته من أجل وحدتنا.
إننا، في لقاء الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، نشكل صدى لصلاة المسيح ربنا الكهنوتية: “يا أبت القدوس، ليكونوا بأجمعهم واحِداً : كما أنّكَ فيَّ ، يا أبَتِ ، وأنا فيك . فليكونوا هُم أيضاً فينا لِيُؤمِنَ العالمُ بأنَّكَ أنتَ أرسَلتَني . وأنا وَهَبتُ لَّهُم ما وَهبْتَ لي مِنَ الْمَجْد ليكونوا واحِداً كما نَحْنُ واحد : أنا فِيهِم وأنتَ فيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوحدَة ، ويَعرِفَ العالَمُ أنّكَ أنتَ أرسَلَتَني ، وأنَّك أحببتَهم كما أحبَبتَني “(يوحنا ١٧: ٢١ – ٢٣ ). وفيما ندرك أننا بحاجة ماسة إلى نعمة المسيح لكي تحررنا من ضعفنا وتشددنا في سعينا إلى أشدِّ أواصر الوحدة، نرفع صلاتنا إلى الله مع موسى والشعب الذين، عندما حررهم الله وأخرجهم من حالة الاستعباد والظلم، رفعوا صلاة الشكر والالتماس الدائمين هاتفين: “يمينك يا رب قديرة وقادرة” (خروج ١٥: ٦).
نصلي في هذا المساء ، وفِي هذه الكاتدرائية بالذات ، من أجل وحدة المسيحيين بدعوة من الأخ الحبيب نيافة المطران منير حنا الجزيل الاحترام ، اسقف هذه الكاتدرائية العامرة ، وبحضور جميع الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والشعب المؤمن الذين أتوا ليرفعوا الصلاة بكُلِّ إيمان ٍ وحرارة لتبقى كنيسة السيد المسيح كما ارادها واحدة جامعة مقدسة رسولية ، ونحيي مجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس كنائس مصر لإحياء هذا الأسبوع.
أيها الأحباء
أراد المنظّمون لأسبوع الوحدة أن يبدأ في ١٨يناير/ كانون الثاني من كل عام في عيد قيام كرسّي القديس بطرس، أي في ذكرى وصوله إلى ترتيب الكنيسة وتحمله المسؤوليات ، بطرس الذي كان صيّاد سمك فقط ، ولكنّ قلبه كان ممتلئاً بالإيمان والمحبّة بالمسيح يسوع . وينتهي الأسبوع في ٢٥ من الشهر الجاري في عيد إهتداء القديس بولس على طريق دمشق ، فأصبح بولس مهندس الإيمان وهو أول مَن علّمنا مَن هو يسوع المسيح، الذي سمّاه آدم الجديد، آدم الجديد الذي حرّر البشرية من جهلها وعبوديتها للخطيئة وأسس إنسانيّة جديدة غير محصورة، لا بشعبٍ يهودي أو يوناني ، لا بغنيٍّ وفقير ، بل هي لكل الشعوب. امّا في مصر فنرفع الصوات من أجل وحدة الكنائس ، بعد أن تحتفل الكنيسة القبطية الارثوذكسية الشقيقة بعيد الغطاس ، وبعد إنتهاء طلاب المدارس إمتحانات نصف السنة الدراسية ، ليتسنى للجميع المشاركة والصلاة وحضور اللقاءات الخاصة بهذه المناسبة العزيزة على قلوبِنا .
في صلواتنا وابتهالاتنا نقول : سبّحوا الربّ يا جميع الشعوب، هلّلويا. ولا نقول، سبّحوا الربّ يا جميع الأرثوذكُس ولا يا جميع الإنجيليين ولا يا جميع الكاثوليك ولا يا جميع المسيحيين، بل نقول بصوتٍ وبقلبٍ واحد يا جميع الشعوب من كلّ لونٍ وعرقٍ ومكان. كلّنا أبناء للآب الذي في السماء، ولكن يجب علينا أن نعرف يسوع المسيح ونتعَمَّد بإسمه ونأخذ إنجيله المقدّس حياةً لنا وهدياً لدربنا . هذا الرسول العظيم بولس مثل بطرس رجل الإيمان والمحبّة المطلقة لربّه ، ولو خطىء لكنّه ندِم وامتلأ من نعمة المسيح وصار بطلًا في كنيسة الربّ، متقدماً بالخدمة والمحبّة ، حتى سفك دمّه من أجل سيّده.
بعد كل الألآم التي احتملها بطرس مات مصلوباً كسيدهِ ، والعذابات والمشقات التي عاناها بولس مات مقطوع الرأس بحدّ السيف والإثنان في روما، إيمانًا بيسوع المسيح .
هنا نتسأل هل يعقل أن تنقسم الكنيسة؟
نعم، يا إخوتي، عندما يدخل الشيطان تنقسم الكنيسة. وعندما يُطرد الشيطان تعود الوحدة إلى الكنيسة. لذلك علينا أن نأخذ من بولس نعمةً وقوّة، لكي نتعلّم كيف نكون مسيحيين حقيقيين، مخلصين وملتزمين . بولس هذا المسيحي ، كان كلّه لربّه، بإيمان عظيم وثقة بالمستقبل وبالروح القدس. ونحن أيضًا علينا، أن نكون مثل بولس مؤمنين ، واثقين بالربّ، محبين للكنيسة ولبعضنا وللناس أجمعين . علينا أن نكون نوراً للعالم وملحاً للأرض. خميرة صالحة في عجين الأرض كلّها. نحن لسنا شعباً منغلقاً على ذاتِهِ . نحن خميرة صالحة في عجين الأرض كُلِّها ولكلّ الشعوب، لكي تتوّحد كل الشعوب بيسوع المسيح، بإنسانيّة واحدة من أبناء آدم الجديد. هذا هو دورنا وهذه هي رسالتنا. والقديس بولس يقولُ لنا وبكلّ محبّة، : تصالحوا مع الله. تصالحوا مع ربّكم تصالحوا مع بَعضُكم لتتحقق الوحدة. نشكر الله نحن سائرون على طريق الوحدة، مع إخوتنا الأرثوذكس والإنجيليين . نحن كنائس شقيقة و يجمعنا إيمانٌ واحد. نحن كنائس شقيقة وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا. نعم ، هناك خلافات لاهوتيّة بين بعضنا ولكنها ستزول بإذن الله، وتعود الوحدة الكاملة . هناك حوار محبة وتفاهم وتقارب بين الكاثوليك والأرثوذكس والإنجيليين. ولذلك نرى في ذكرى ال ٥٠٠ سنة على إنفصال لوثر عن الكنيسة ذهب قداسة البابا فرنسيس إلى السويد للمشاركة في الإحتفال بالذكرى وليقول لهم: نحن إخوة وتعالوا ننسى الماضي ونفكّر معًا. نحن كلّنا معمدّون بيسوع المسيح ونؤمن بالثالوث الأقدس وبتجسّد الإبن وبالفداء. طبعًا هناك خلاف حول الكنيسة والكهنوت والقربان، ولكن تعالوا لنتحدّث ولنبحث معًا عن الحلول. هناك خلافات حول السلطة تعالوا لنتحدّث عنها.
وكذلك البابا القديس يوحنّا بولس الثاني ، قال لإخوتنا الأرثوذكس: ” كنّا معًا إخوة لألف سنة، ولم يَكُنْ أي سبب يفرّقنا ويفصلنا عن بعض، والبابا كان خادمًا للوحدة. رأس الكنيسة هو خادم للوحدة بمحبّته، وليس رجلًا متسلطًا. وفي الألف الثاني كان الإنقسام، فتعالوا لنتوّحد في الألف الثالث كما كنّا في الألف ألأول . هناك اليوم حركة وبرّكة من أجل هذه الوحدة، فلنصلّي كي تستمر هذه الحركة المسكونيّة.
مار بولس يعلّمنا الثقة بالربّ والشجاعة والقداسة، ويعلّمنا أن نضحّي في سبيل الكنيسة وأبنائها. ليس المهم أن نظهر نحنُ، بل واجبٌ علينا أن نعمل بمحبةٍ وإخلاصٍ لكي يظهر الرب يسوع ويتعرف العالم عليه من خلالنا. يجب علينا أن نكون خدّامًا ليسوع المسيح. كما يجب علينا ألا نحجب صورة المسيح لنظهر نحن. بل علينا بأعمالنا وكلامنا وتصرفاتنا أن نُظهر يسوع المسيح ومحبته ورحمته، فتعود الوحدة التي نصلّي من أجلها ، ولتكن صلاتنا مقبولة عند الربّ من أجل وحدة الكنيسة. ويجبُ على كل مؤمنٍ منّا أينما كان ألا يكون حجر عثرة من أجل الوحدة ، والربّ هو الذي يعمل فينا كلّ عمل صالح. وعلى رجاء أن تكون كنيسة المسيح بفضل رسله بخير وتتمّ مشيئة الله بجمع كلّ الناس إلى واحد، بالربّ يسوع المسيح له المجد والشكر، إلى أبد الأبد
في الواقع، إن الظروف السياسية والاقتصادية، وممارسات العنف والتعدي والإرهاب، تأسّر بها شعبنا وشعوب المنطقة داخل حالات الفقر والحرمان والخوف على المصير والتعرض لأوبئة النفايات ناشرة السموم والأمراض في كلِّ مكان، وانتهاك الحقوق وكرامة الشخص البشري كُلِّها تحطُ من قيمة الإنسان ومكانته الرفيعة .
أجل، أمام هذا الواقع الاستعبادي الحديث، بالإضافة إلى الاتجار بالبشر وكراماتهم والعنف المنزلي، وتدهور الروابط الزوجية والعائلية، وفقدان الثقة بين الشعب والحكام، والتفلُّت من المبادئ والقيم الروحية والأخلاقية، نصلي معاً اليوم هاتفين: “يمينك يا رب قديرة قادرة” (خروج ١٥: ٦) لتحررنا. فخلاصنا وتحريرنا يتمّان بالقدرة الإلهية التي انتصرت بالمسيح يسوع، بموته وقيامته، على الخطيئة والشر. وبما أن الخطيئة المرتكبة، التي لا يتوب عنها مرتكبوها، هي التي تسبب جميع أنواع الشرور في العالم، فإن نعمة المسيح التي تقود إلى التوبة كفيلة بتبديد الخطيئة وإزالة نتائجها، وإنتاج ثمار روحية واجتماعية وسياسية أدت إلى تبدلات بناءة كبيرة، في المجتمعات والكنيسة والبلاد .
هكذا يشرح القديس اوغسطينوس صلاة موسى والشعب، من بعد أن حررتهم يمين الله القديرة، وعبرت بهم من أرض الاستعباد إلى أرض الحرية عبر البحر الأحمر، قال:
” الخطيئة هي العدو الذي أغرقه الله في البحر، والمرموز إليه بالمصريين الفرعونيين. هي خطايانا، التي كانت تثقل كاهلنا، غرقت ولكنها زالت بالمعمودية والتوبة.
والأفكار الشريرة، التي تسيطر على الظلمة في داخلنا، وكأنها خيول وفرسان تدفع بنا حيث تشاء، قد أَعتقنا الله منها بالعماد المقدس، ويتحرّر منها المعمدين بسر التوبة والمصالحة، كما لو أننا نعبر البحر الأحمر المصطبغ بدم الرب المخلص والمصلوب “.
ويستنتج القديس أوغسطينوس من هذه الرواية التشجيع للمؤمن المسيحي على التمسك بالرجاء والأمل، وعلى المثابرة بدل الاستسلام لليأس والقنوط .
في ضوء كل هذا، يجب أن نقر ونعترف بأن الخطيئة هي أساس الانقسامات بين المسيحيين في كنيسة المسيح الواحدة، وهي تمزق جسده السري. يؤكد آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “أنه لا توجد حركة مسكونية من دون توبة داخلية. فالرغبة في الوحدة تولد وتنضج من تجدد العقل والقلب، ومن التجرد الذاتي، ومن ممارسة المحبة. لذا ينبغي أن نلتمس من الروح القدس نعمة التجرد الصادق والتواضع واللطف في الخدمة وسخاء النفس نحو الآخرين” (القرار حول الحركة المسكونية، ٧ )
انطلاقا من هذا الإقرار، واعتباراً لكون الرب يسوع قد ربط المؤمنين به بوحدة الإيمان بسره كرأس للجسد الذي يجمع كل أعضائه في سر الكنيسة الواحدة الجامعة، وبمصداقية وصيتة، وصية المحبة التي تعلو كل اعتبار، إذ صلى قائلاً: “ليكونوا واحِداً ، فيؤمن العالم أنك أنت أرسلتني، وأنك أحببتهم كما أحببتني” (يوحنا ١٧: ٢١-٢٣) .
أيُها الأحباء : لا يمكننا أن نجعل من أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين مجرد صلاة موسمية، ولا موضوعاً أكاديمياً، من دون خطوات عملية جدية نحو الوحدة الكاملة ، بدءاً من توبة القلب وقداسة الحياة، وشدّ روابط الشركة الروحية بالصلاة المشتركة، متذكرين وعد المسيح الرب: “حيث يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، أكون هناك بينهم” (متى ١٨: ٢٠)، وصولاً إلى مزيد من التعارف المتبادل على تراث كل كنيسة : الروحي واللاهوتي والليتورجي (القرار حول الحركة المسكونية، ٨-١٠).
لنرفع صلاتنا بقوة ، ثابتين بالإيمان والرجاء والمحبّة ، هاتفين: “يمينك يا رب قديرة وقادرة أن تحررنا وتجمعنا في محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس، وتجعل منا كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية .
+